اشتد عودهم.. وسمت ارواحهم.. امتلئت قلوبهم حباً لذلك الاب الحاني ونفوسهم بأسا لحمايته ..
وحين حل كابوس الحقد والطمع وجثم على صدر والدهم المسن.. الذي جُرح مرارا وتكراراً.. القي الجميع في دوامات البؤس والشقاء.. أصبح الهواء المتنفس ممزوج برائحة الرصاص والدم، صرخات المظلومين حلت محل زغردة الطيور.. سُرقت تلك الفاتنة من يد الوالد.. تلك المزينة بقداسة النبوة.. تراتيل الجوامع.. اجراس الكنائس.. نُهشت بأيدي الكفرة.. هُدد شرفها.. ففزع اخوتها، تسلحوا بصلابة الدين.. بثورة الحسين.. بغيرة مقطع اليدين، اقسموا بأستعادتها وقتل ذلك الشبح .
فهبوا يسطرون اروع قصص العزيمة والشجاعة.. البطولة تلو البطولة، وذلك الاب الشامخ يراقبهم من بعيد.. يمدهم بعزم وبسالة.. وما أن يسقط احدهم مضرجا بدماءه حتى يحتضنه ويضمه الى صدره الدافئ ويروي بدماءه تلك الارواح الخائفة من المجهول! يبكي رحيل فلذات اكباده تارة.. وتارة يهتف فخرا بهم.. ويقف شامخاً امام اعداءه.. والكل يتساءل: متى يهرم؟ متى يسقط؟ لِمَ يكابر؟!
متى ما هرم ابناءي سأهرم.. متى ماتراجعوا سأُهزم! يجيبهم .
هم من قضوا أيام شهر رمضان الشديدة الحرارة تحت وطأة النار والبارود والدخان.. صابرون صائمون يتنفسون عبير العزم ويتعطرون برائحة النصر، يسقونني من عرقهم ودمائهم الزكية، حشود متكاتفون يتباهون بشرف الشهادة، يتنافسون للوقوف صفاً واحداً أمام اقسى واخطر عدو في العالم. هؤلاء هم اولادي.. ابطالي.. فخري .
اسمعتم بذلك الشاب جديد العهد بالزواج.. ترك عروسته خلفه قائلاً لها: سأحمي شرف تلك المغصوبة.. سأستعيد عزها.. حفاظاً عليكِ انتِ "شرفي".
أرأيتم تلك العجوز وهي ممسكة بثياب ولديها الوحيدين وتقول فليذهب احدكم ويبقى الاخر لي.. فليس لي سواكما بعد استشهاد ابوكما، فأجابها وهل ترضين لذلك الوحش ان يدخل بيتنا ونحن نجلس معك؟! فحزمت امتعتهم واودعتهم الله الذي لاتضيع ودائعه .
اسمعتم عن ولدي الطالب في المرحلة الثالثة كلية تقنية الذي تقدم في ساحات المعركة، هو منتظر نجاحَين.. نجاح الدراسة ونجاح النصر او الشهادة.. أرأيتم يده وهي تسقط بعد ان سقط الهاون عليه.. أرأيتم بأس قلبه وتمسكه في الحياة.. فقط الى حين يُعلن النصر.
هل لفحت وجودكم تلك النار المنبعثة من قلب عزيزي الذي يتأسف لجرحه الذي اقعده في الفراش ومنعه من القضاء على ذلك العدو.. هل سمعتم قوله: ان الحادث الذي تعرضت له قبل ايام اثناء تأديتي الواجب والذي اصاب ساقي وجعلني مقعدا في الفراش للعلاج، قد آلمني كثيرا ليس بسبب آلام الجرح او الكسور في عظم الفخذ ولكن لأنه قد منعني وحرمني من المشاركة في المعارك التي يخوضها اخوتي الابطال .
هل ابصرتم ذلك الشيب في رأس ولدي المقاتل البالغ من العمر 80 سنة.. أرأيتم شجاعته وعزمه! بعد ذلك تتساءلون متى أهرم؟! وهل يهرم من يملك هكذا اولاد .
ومازال شامخا يروي بطولات اولاده.. حتى سمع ذلك الاعلان "وسقطت دولة الخرافة" بزغت شمس الانتصار بعد كسوف امتد سنوات.. اشرقت حاملة بكل شعاع قصة لبطل.. طابعة ذكراه حيث تسقط.. هبت رياح الفرج وهي تحمل مع ذراتها رائحة تلك الدماء الطاهرة التي أُسيلت عزة وفخرا.. عادت تلك الفاتنة الى والدها.. تغيرت ملامحها، شاب شعرها، لكنها حالمة بغد اجمل مادامت في احضان والدها.. خاطبها والدها: غاليتي.. ستعودين لحياة اجمل.. ستزهرين.. ستفرحين.. ولكن تذكري ان ذلك بسبب بطولات اخوتك.. تذكري ان فخرك عائد بالفضل لدماءهم.. خلدي ذكراهم بين طيات قلبك.. رتليهم ايات عز وانتصار.. ارفعيهم آذان شموخ وافتخار .
اضافةتعليق
التعليقات