في مساء ذاك اليوم ولدتني أمي، تضربني القابلة لتسمع أمي صوتي، لأول مرة أصرخ، صرخت حتى عرفت أمي أنني بخير، بقطعة قماش حملتني وربطت يدي وقدمي، وجاءت بي نحو أمي، متلهفة جدا لسماع نبضات قلب أمي فكثيرا ما كنت أسمعها وأنا في رحمها، والان قد خرجت ولم تعد تلك النبضات قريبة مني، ها هي الان تقبّلني وتحضنني، وبين ألم الولادة واوجاعها اخذت تذرف دموع عينها وهي تقبلني وتردد شكرا لله، كان صوتها خائف يرتجف، خرجت القابلة ومعها العدة، استقلبها أبي ليعرف ماذا أنجبت أمي فبعد انتظار تسعة أشهر حان الوقت ليعرف ما الخبر..
أطرقت القابلة رأسها وهي تقول: لا حول ولا قوة لا بالله انجبت بنت، وعوضك على الله، بهذه الكلمات استقبل أبي خبر قدومي فكانت تعزية له، فكل مرة يهدد فيها أمي ان يتزوج عليها او يتركها مع بناتها ان لم تنجب له الولد، غضب ابي كثيرا فهو كبير القبيلة وشيخهم كيف لا يكون له من يحمل اسمه، دفع الباب واقترب نحو امي وهي تتراجع خوفا من ان يضربها وهي ماتزال تتوجع من ألم الولادة، بنت اخرى.. تلفظ ابي بكلمات قاسية لا ارغب في ذكرها وأود ايضا ان احذفها من قاموس ذاكرتي، لم ترد امي بكلمة واحدة على كلام ابي واخذت تكتفي بالبكاء، جلست تندب حظها العاثر، رموني ارضا فلا احد يحملني، وإن صرخت من الجوع تأتي أمي سريعا لتقطر لي بعض قطرات من الحليب خوفا من ان يسمع صوتي أبي.
مرت ثلاثة ايام وانا من دون اسم مرة ينادوني بإسم (كافي) ومرة (صبرية) لان امي صبرت كثيرا.
كعادة نساء القرية يأتون يوم الثالث الى دار المرأة النفساء يباركون لها ويقدمون الهدايا الرمزية كنوع من المحبة، جاؤوا لدرانا فأمي زوجة شيخ قبيلتهم، امتلأ مضيف أبي بنسوة المدينة، حملتني أمي وطافت بي حولهم، تحملني واحدة وتردد مسكينة هذه البنت السابعة، واخرى ترد: من سوء حظ امها، وتقطعها الجارة: ساعد الله قلب امها سبع بنات يا ويلي.
صرخت لو كان لي الامر لما ولدت ولكن ارادة الله ان اولد بنت فما ذنبي يا قوم!.
تتحسر أمي بكلام النسوة وتتمنى لو انها قطعت ألسنتهم كما قطعن نسوة المدينة ايديهن، اناغي ليلي مع بقية اخواتي فهنّ ايضا جرى عليهن ما جرى علي، تلاعبني (رضية) هذه كانت البنت الثانية لأمي وقد سماها أبي رضية لانه رضى بقدره أن تكون ثاني بنت له، وبين سنوات الحزن والعذاب كبرت واصبحت كبقية البنات مودة في دار أبي ممنوعة من الخروج، ومن التعليم، وكان يقول أبي دائما تخرجن من البيت مرتين فقط الى بيت أزواجكن وللمقبرة، فلا خيار ثالث أمامنا.
نفذ أبي ماكان يهدد فيه أمي وتزوج من ابنة الشيخ المجاور لقريتنا، لم تحزن امي على زواج أبي ودخول امرأة اخرى في حياتها، بقدر ما حزنت على حالنا بعد زواجه، وكيف لو انجبت الضرة ولدا، فعلها ابي وكان قوله وعمله واحد، فهو الكبير في القرية والجميع تحت سلطته ويده.
جاءت الضرة وجلست معنا في الدار، فهي الاخرى لم تملك خيارا اخر إما ان تتزوج او تدفن في دارها، كانت امي تعاملها جيدا الا انها تعرف هي الاخرى حظها، وبين الخوف من ولادة ولي العهد وبين حزنها على هذه المرأة التي لا تملك اي ذنب، ففي هذه القرية كل شيء مباح للرجل، ومحرم على النساء، حملت هذه المرأة وعلامات الخوف تظهر عليها، وكثيرا ما كانت تنذر وتناجي الله ان يرزقها ولدا..
وفي يوم من الأيام جاءت شيخة المدينة، المرأة التي تعرف كل شيء وتعمل كل شيء لنسوة المدينة، طلبت منها زوجة أبي ان تعمل لها حجاب او حرز حتى تنجب الولد، فكان رد الشيخة عليها عليك بجلب سبع بيضات من ديك اسود ومعها سبع أنواع من البخور، وسبع قطع من القماش من نوع الحرير الملون، وسبع حبات من العدس، وسبع حبات من القمح...
تأتي بهذه الأشياء وتدفنها تحت شجرة السدر وتوقد شمعة في يوم السبت حتى تذهب التابعة عنها وترزق بولد.. لم تتردد وقامت بكل ما قالت الشيخة، وايقنت ان الذي في بطنها ولدا، وقام أبي بتحضير الذبائح وفتح المضيف لسبعة ايام لقدوم ولي العهد الذي يحمل اسمه، وعاشت القرية اجمل الايام.
اقترب موعد الولادة وضرب الطلق في جسد زوجة أبي وامتلأت الدار بصرختها، اسرعت القابلة لتنال الجائزة من أبي، احتضنتنا أمي وهذه المرة الاولى التي تحضنني أمي وتجمعني مع اخواتي على صدرها، نبضات قلبها تسارع الزمن، وتقصر على حالها كلمة مبروك، ترتجف كسعفة خاوية لا تقوى على السقوط ولا يمكنها الصمود، مرت الثواني ثقيلة جدا حتى أبي كان يدور حولنا وهو ينتظر سماع الخبر..
خرجت القابلة متثاقلة الخطوات، بنت.. أيها الشيخ جاءت بنت.. اسوّد وجه أبي فهو كظيم وترك الدار ومن فيها، وعاقبها عقابا عسيرا لأنها قالت ستلد ولدا وولدت انثى، استمرت زوجة ابي في الحمل والانجاب حتى اصبح عددنا عشرة بنات، هنا لم يحتمل أبي بعد فصرخ صرخة: كفى بناتا كفى..
في قانون القرية إن زعيمهم يجب ان يكون له ولدا ومن لم ينجب ولدا تخرج الزعامة من يده، سلّم ابي تاج الزعامة الى الشيخ الفلاني فهو يملك اربعة رجال، وعاش كبقية افراد القرية، وبتذمر وحسرة على ما أخذ منه حتى مات بغصة في قلبه، وبعد رحيل أبي ووجعه على الولد تزوجنا نحن البنات وانجبنا الرجال وغيرنا اسماءنا التي كانت تعبر عن بؤس ابي وقد اطلقت على نفسي (العنود) الفتاة التي غيرت قدرها بيدها من البنت الريفية الى سيدة تؤمن بقدرها وبعطايا الله، وان كل ما يأتي من الله فهو خير وقد تكون البنت خير من الرجل، فنحن العشرة خرجنا من القرية وكل واحدة تحمل شيء من الكبت والحرمان وعملت على تحسين حالها ووضعها من هذه الافكار، فدرسنا وتعلمنا وعدنا ومعنا العلم والنور وان كانت القرية ما تزال تقتل البنات بعرف قبيلتهم فكانوا يطلقون على البنت التي تتعلم وتخرج من دارها العنود. اي مثلي انا.. انا تلك التي حاربت قوانينهم وأصبحت في عيون القرية العنود.
اضافةتعليق
التعليقات