أخرج حقیبته، نظر إليها بابتهاج.. برقت عيناه.. وهج عينيه ينبئ عن البجح الكامن في سويداء قلبه.. أخرج شدّة من النقود من فئة 25000 دينار.. مليونان ونصف.. تمتم بتبجح.. أخرج شدة أخرى وثالثة ورابعة.. عشرة ملايين.. غمغم بسعادة بالغة كسرور ظمآن ارتوى من عذب ماء بعد طول الظمأ، أو تائهٍ في الفيفاء يائس من حياته وجد الدرب بعد طول العناء.
وضع تلك النقود في الموقد وأشعلها.. وضع عليها إبريق الشاي، وترك الشاي (يتهدّر).. اللهيب الساطع من تلك النقود تصنع في داخله أحاسيس جميلة.. كل شعلة تتلوی يتطاير معها شعور ممتع ..الكبرياء ..الشموخ .. نشوة البطر.
سكب كوباً من الشاي، قدمه لضيفه قائلا بتبجح: أشرب واهنأْ فقد صرفت لصنع هذا الشاي 10 ملايين دينار!!، لأجل تصرفه هذا عُرِفَ في المدينة كلها بخلل في العقل ونقصان في الإدراك.. جنون غامض یجعله يحرق دنانير كثيرة ليصنع كوبا من شاي لا يثمّن إلا بألف دينار.. وكما قيل قديماً وحديثاً: الجنون فنون.
سمعت هذه الحكاية ممن كان قد التقى بهذا التاجر.. تأسّفتُ لأن تلك الدنانير ضاعت بلا هدف، وكان ممكنا أن تساهم في رفع المستوى المعيشي لكثير من عوائل الأيتام والفقراء.. كان يمكن أن تنصب في مجال الثقافة وبذلك تساهم في رفع المستوى الثقافي للمجتمع.. كان يمكن أن تصرف في بناء المستشفيات والمستوصفات وبذلك ترفع المستوي الصحي.. لكن أُحرقت وضاعت هباءً.
تأملت قليلاً فأدركت فجأة أننا أيضاً نقوم بمثل هذا العمل.. بل بأشنع منه.. فالنقود لو ضاعت يمكن أن تُسترجع.. لكن لحظات العمر لو ضاعت وأُتلفت لا يمكن استدراكها.. المال يعوض لكن فرصة العمر إنما هي واحدة ولو خسرناها لا يمكن أن نتداركها.
الدقائق التي نحرقها ونحن نجري هنا وهناك باحثين في المواقع التي لا تضر ولا تنفع. الساعات التي نقضيها والعينان تحلقان في شاشة التلفاز متابعين مسلسلات لا تهدف إلا لسحق الأخلاق، ليس فقط إضاعة لكنز ثمين وهبه الله لنا، بل هو ضياع في تيه، وخسارة للفكر الذي زودنا الله به لمعرفة الحق من الباطل واتباع الأحسن دون الحسن.. لكننا نعرض تفكيرنا لغيرنا ليقوم هو ببرمجته وبذلك خسرنا الكثير.
الساعات التي تشتعل وتتحول إلى رماد في الألعاب الإلكترونية.. في الثقافة الإسلامية ليس الثمن للساعات والدقائق فحسب، بل حتى الثواني لها قيمة باهظة.. وليس الثمن للعمر بل لكل نَفَس ثمن مرتفع: فالمثمن إمّا رضى الله أو سخطه؛ إنه الجنّة أو النار:
أنفاس عمرك أثمان الجنان فلا تشري بها لهباً في الحشر تشتعل
عالم اليوم يعيش حالة من الضياع والتيه.. وذلك لأننا نسينا الهدف وانشغلنا بتوافه الأمور وأًصبحنا مصداقاً لمقولة أمير المؤمنين (ع) حيث يقول: هَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ وَ لَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيق.
فانشغلنا بأمور تبعد عن الهدف أكثر مما تقرب الإنسان إليه ولمعالجة هذا الأمر لابد من اتخاذ بعض الخطوات العملية لتجديد روح الحياة نشير إلى بعضها:
أولا: زرع روح الهدفية:
لابد من زرع روح الهدفية في الأطفال منذ نعومة أظفارهم حتى ينمو ويكبروا على هذه الروح؛ ولابد من تثقيف شبابنا على هذا التفكير حتى يتشبثوا بكل لحظة ودقيقة وساعة من حياتهم غير مضيعين لفرص الحياة في اللاشيء.
والأمر بحاجة إلى التخطيط، وعقد ندوات فكرية والمؤتمرات التي تهتم بشؤون الشباب ومتابعة الأمر كي نستطيع توجيه الجيل الحاضر إلى استثمار فرص الحياة.
ثانيا: عقد الدورات:
لابد من عقد كثير من الدورات في مختلف الشؤون العلمية والثقافية والمهارات الإجتماعية والمهارات العملية والرياضية. يجب أن لا نقتصر على الدورات الثقافية، بل لابد من تنمية المهارات العملية أيضا تجنبا للملل وجذباً لجميع الفئات. ولابد أن نتسلح في هذه الدورات بعناصر: الحداثة والأصالة، والتنوع والجاذبية والهيجان حتى يتمكن كل شاب أن يشترك في أي دورة تنسجم مع نفسيته وعلائقه. فقد رأيت الكثير ممن كان يرغب في المشاركة في الدورات الهادفة إلا أنه لم يجد ما تتوق إليه نفسه وتنسجم مع مشتهياته.
ثالثا: رحلات تربوية، ترفيهية، ثقافية:
من الخطوات الناجحة هي قيادة رحلات شبابية تتضمن التوعية والتثقيف والترفيه في آن واحد. وقد رأيت التأثير البالغ لهذه الرحلات الدينية- التوعوية على بعض من التقيت بهنَّ. تساعد هذه الرحلات أيضاً على تعميق الصلة بين الشباب وبين أهل البيت (ع) فيما لو كانت الرحلة إلى الأماكن المقدسة. أضف إلى ذلك ما في الأسفار من كسب التجارب واكتساب الإخوان وتعلم فن المعايشة وكما قال الشاعر:
تغرب عن الأوطان في طلب العلى وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم واكتسـاب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجـــد
رابعا: إقامة المسابقات:
من الخطوات المشجعة هي إقامة المسابقات إذ أن روح البشر كعموم وروح الشباب بالخصوص تتوق إلى التنافس. يمكن أن تكون هذه المسابقات في تلخيص كتب تم قراءته، أو في كتابة مقال، أو ايجاد أفضل قناة دينية وأكثرها جاذبية وإفادة على الصفحات الإجتماعية كتويتر وفيس بوك أو تلغرام. وهذه الخطوة الأخيرة ليس فقط مساهمة للشباب في نشر الثقافة بل يجعل الشاب يندمج ويتفاعل بحيث يصبح الإهتمام جزءً من شاكلته.
اضافةتعليق
التعليقات