عُرِفَ الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) بطيبه وسخائه وكرمه، وتفقده للأرامل والأيتام والمساكين والفقراء، فلم يترك بطونهم فارغة، ولا أجسادهم عارية، ولا حوائجهم معّلقة، حيّر العقول بسخائه وكرمه، وكتم غيضه عن الفُجّار والأشرار لأنه كان يتعامل بالتقية مع حُكّام زمانه، وينفذ ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم بضرورة ووجوب اطاعة الحاكم عند التقية، وأيضا عُرِفَ بحكمته وحنكته وفطنته عندما كان طفلاً صغيراً لم يبلغ الحُلُم، عَجَّبَ فطاحل العرب وكبرائهم وعلمائهم وأسيادهم، وكان يجيب على مسائل كبرى مجيباً أنه لم يكن علمه بها مكتسباً وإنما هو علمٌ لَدُني من ربِّ الأرباب.
ناظر حتى النصارى واليهود، وأجابهم بكتبهم السماوية مرَّتِلاً إياها، وقائلاً لهم نحن إستورثنا علم الأنبياء ونحن نتكلم ونُرَتِل كما تكلموا ورَتَّلوا، فجعلهم يقرون بدين الإسلام مندهشين ومؤمنين بالأئمة المعصومين مقرين بذلك ورجعوا إلى أهلهم مسرورين فرحين، كذلك اجاباته العميقة التكوين لأبو حنيفة ولهشام ، وجملة من وصاياه عليه أفضل الصلاة والسلام:
1- من وصية له (عليه السلام) إلى بعض ولده: يا بني إياك أن يراك الله في معصية نهاك عنها، وإياك أن يفقدك الله عند طاعة أمرك بها، وعليك بالجد، ولا تخرجن نفسك من التقصير في عبادة الله وطاعته، فإن الله لا يعبد حق عبادته، وإياك والمزاح فإنه يذهب بنور إيمانك، ويستخف بمرؤتك، وإياك والضجر والكسل، فإنهما يمنعان حظك من الدنيا والآخرة. ( بحار الأنوار 17/203)
2- من وصية له (عليه السلام) لبعض شيعته: أي فلان اتق الله وقل الحق وإن كان فيه هلاكك فإن فيه نجاتك، أي فلان اتق الله ودع الباطل وإن كان فيه نجاتك، فإن فيه هلاكك. (تحف العقول 301)
3- اجعلوا لأنفسكم حظاً من الدنيا بإعطائها ما تشتهي من الحلال، ومالا يثلم المرؤة وما لا سرف فيه، واستعينوا بذلك على أمور الدين، فإنه روي: ليس منا من ترك دنياه لدينه، أو ترك دينه لدنياه. (موسوعة العتبات المقدسة 217)
4- تفقهوا في الدين، فإن الفقه مفتاح البصيرة، وتمام العبادة، والسبب إلى المنازل الرفيعة، والرتب الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العباد، كفضل الشمس على الكواكب، ومن لم يتفقه في دينه لم يرض الله له عملا. (بحار الأنوار 17/203 (.
واستمرت إمامته خمس وثلاثون عاماً، من صفاته (عليه السلام) صاحب السجدة الطويلة فهذه الصفة اتصف بها لأنه كان كثير السجود فقد ورد أنه كان (عليه السلام) بضع عشر سنة يسجد من ابيضاض الشمس إلى وقت الزوال وفي رواية عن أحمد بن عبد الله، عن أبيه قال: دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح فقال لي: أشرف على هذا البيت وانظر ما ترى؟ فقلت: ثوبا مطروحا فقال: انظر حسنا فتأملت فقلت: رجل ساجد، فقال لي تعرفه؟ هو موسى بن جعفر، أتفقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلا على هذه الحالة إنه يصلي الفجر فيعقب إلى أن تطلع الشمس، ثم يسجد سجدة، فلا يزال ساجدا حتى تزول الشمس وقد وكل من يترصد أوقات الصلاة، فإذا أخبره وثب يصلي من غير تجديد وضوء، وهو دأبه، فإذا صلى العتمة أفطر، ثم يجدد الوضوء ثم يسجد فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر.
أما الصلاة الخاصة بالإمام الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج: ركعتان تقرأ في كلّ ركعة الحمد مرّة والتّوحيد اثنتي عشرة مرّة ودعاؤه (عليه السلام): إلهي خَشَعَتِ الأصواتُ لَكَ، وَضَلَّتِ الأحلامُ فيكَ، وَوَجِلَ كُلُّ شيءٍ مِنكَ، وَهَرَبَ كُلُّ شيءٍ إلَيكَ، وَضاقَتِ الأشياءُ دونَكَ، وَمَلأ كُلَّ شيءٍ نورُكَ، فَأنتَ الرَّفيعُ في جَلالِكَ، وأنتَ البَهيُّ في جَمالِكَ، وَأنتَ العَظيمُ في قُدرَتِكَ، وأنتَ الَّذي لايَؤودُكَ شيءٌ، يا مُنزِلَ نِعمَتي، يا مُفَرِّجَ كُربَتي، وَيا قاضيَ حاجَتي، أعطِني مَسألَتي بِلا إلهَ إلاّ أنتَ، آمَنتُ بِكَ مُخلِصاً لَكَ ديني، أصبَحتُ عَلى عَهدِكَ وَوَعدِكَ ما استَطَعتُ، أبُوءُ لكَ بِالنِّعمَةِ، وَأستَغفِرُكَ مِنَ الذُّنوبِ الَّتي لا يَغفِرُها غَيرُكَ، يا مَن هُوَ في عُلوِّهِ دانٍ، وَفي دُنوِّهِ عالٍ، وَفي إشراقِهِ مُنيرٌ، وَفي سُلطانِهِ قَويُّ، صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَآلِهِ. (جمال الأسبوع ص١٧٩).
ومما لا شك فيه أنه معروف بباب الحوائج وباب المراد و (أبو طلبة)، فلم يرده حيران إلا وقد نفس الله همه وكشف بلاءه، ولم يندبه محتاج إلا وقضى الله حاجته، ولم يأته عليل إلا وشافاه الله وعافاه من سقمه وبلاءه ببركة باب الحوائج موسى (عليه السلام)، فلم تطرق بابه يوماً إلا بسماع الاجابة وفتح الباب على مصراعيها للسائل الكريم، وتتوالى معجزاته الباهرات لكل العالم فلم يقصده قاصد أو يندبه نادب بنيه صادقة إلا أتت له بُشراه مغلفة بسرعة الإجابة.
هذا وقد اعتقلوه طغاة عصره العباسيين مراراً وتكراراً ظناً منهم أنهم سيمحقون الدين بقتله أو اعتقاله، فنجا من كل الاعتقالات إلا المرة الأخيرة عندما اعتقله هارون الرشيد، في زنزانة السندي بن شاهك واستُشهِد بعد ثلاث أو أربع سنوات من الحبس، أمر الطاغوت بدس السم للإمام الكاظم (عليه السلام) في الرطب وأمر المرسول بأن يبلغه بأكل جميع الرطب، فأمر الامام بأن يحضر أحد شيعته المخلصين وقال له عندما حضر أنهم سموني بالرطب وعندما تراني أني طلبت شيئاً من الماء فانتفخت وتغيرت ألواني فأعلم أني راحل إلى ربي، أشكو إليه مظلوميتي واضطهادي، فغسلوني وكفنوني وادفنوني في مقبرة قريش.
وبعد ثلاث أيام من مصارعة السم لجسد الإمام روحي له الفداء فقّدَ حواسه، وسكنت أنفاسه، واستلقى أرضاً صريعاً من السم القاتل، وحيداً في غياهب السجن، بلا ناصرٍ او معين جليس عند رأسه، غدا وحيداً عند استشهاده كجده الحسين (عليه السلام)، وهو ابن الخامس والخمسين، وذكرى رحيله في الخامس والعشرين من رجب لعام ١٨٣ هـ ، فأخذوه الطواغيت بعد ما قضى نحبه مسموماً صريعاً على جسر بغداد ونادوا هذا امام الرافضة.
فأقبلوا شيعته ومحبيه من كل حدبٍ وصوب، صارخين مولولين باكين نادبين متأسفين لاطمين الصدور تحسفاً على من فقدوه، وحضر ابنه الرضا بالقدرة الربانية من المدينة لتجهيزه وغسله ودفنه، فهنا تذرف الدموع، وتُشن الحسرات، وتتلهف العبرات، وتجهش الأصوات، وتنسدل الأحزان، وتلطخ الرؤوس بالغبار، ويعمم السواد، ويحُل الحزن، وتكتئب الشمس، وينضم القمر.
فقد ذهب وفُقِد الإمام الذي للطاعة مفترض، فننعاه بحزنٍ شديد، وعيون قرحى، ودمع هطول، ها يا ابن البتول، قد حضرنا لك مجالس التأبين، لنواسي قائمنا ولا نتركه وحيدا، عظم الله لك الأجر سيدي وأحسن لك المصاب.
اضافةتعليق
التعليقات