تسعى جميع بلدان العالم على اختلاف ايدولوجياتها ومذاهبها الفكرية والاقتصادية ومشاربها الفكرية إلى محاولة تحقيق قدر مناسب من الأمن الفكري لسكانها، لما يشكله الأخير من دور بارز في حركة المجتمع وبلورة أفكاره اتجاه مبادىء السياسة والاقتصاد التي تحكم بها شعوب العالم فعدم وجود مزعزع فكري لأفكار العمال يحرك اتجاهاتهم نحو نقد السياسة والخروج عن سطوتها الى فضاء التفكير بما يمكن أن يحول حياتهم إلى حالة من النمو التطور هو السبيل الوحيد الحفاظ على مبادىء الأمن الفكري المطلوب والشباب بما يمتلكونه من قدرات وطاقات فكرية ومهنية وحضارية باتوا يمثلون حجر الأساس في تحقيق مبأدى الامن الفكري المجتمعي. فحكومات العالم تسعى إلى تجسيد مبادى الأمن الفكري التي تراها مناسبة لبقائها وديمومتها وتحاول بشتى الطرق والأساليب نشر هذه المبادىء بين فئات المجتمع بطرق مختلفة وصولا إلى إيجاد حالة من الاقناع والقبول المجتمعي لها بين أوساط المجتمع لا سيما الشباب منهم فالمجتمعات الغربية رسخت مبدأ (الإسلام فوبيا) بين أوساط مجتمعاتها المتحضرة.
وجعلت من المسلمين محط اثارة الشبهات والانتماء للعنف والتطرف دون غيرهم من الديانات والشعوب الأخرى وأصبحت هذه الدعاية حقيقة راسخة في أذهان الغربيين على وجهة التحديد والأخطر من ذلك بات يروج لها في أوساط شبابنا العربي المسلم.
إن الإسلام السياسي ما هو إلا الوجه الحقيقي للإسلام وبات المسلم متهماً في نظر الكثيرون من حيث لا يعلم ما هي تهمته؟ لذا نحاول في سياق هذا المطلب من الدراسة توضيح المؤشرات الأهم في تحقيق مبادىء الأمن الفكري في مجتمعاتنا العربية وكيف أصبح الشباب هو وقود المعركة للوصول إلى الأهداف والغايات المختلفة.
أهمية فئة الشباب في المجتمع
للشباب الدور الأكبر في حركة المجتمع وبناء قواعده العامة، فهم القدرات الإنتاجية الأعلى في حركة الاقتصاد وجدار الصد في ساحات المعارك والحروب وبناء وأركان المؤسسات التعليمية والخدمية وحتى السياسية ، وتعد منطقتنا العربية من بين اكثر مناطق العالم خصوبة سكانية وديموغرافية تشكل فيها فئة الشباب الفئة الأكبر في الهرم السكاني ولعدم توفر الفرص التنموية الكافية في أغلب بلداننا العربية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وقلة الإنتاج أثر بشكل مباشر على قناعة هذه الفئة بالواقع المعاش وأصبحت خيارات الهجرة الى البلدان الغربية من ابرز الخيارات المطروحة امام الشباب بدعاوى الحصول على فرص اقتصادية وتعليمية ومستوى حياة افضل في ترك بلدانهم الاصلية والتوجه نحو مناطق اكثر امناً وحرية واقتصاد.
وقد خسرت المنطقة العربية الكثير من طاقاتها البشرية الشابة بفعل سوء الأوضاع المعيشية والتحديات الاقتصادية التي تعاني منها هذه البلدان، بل إن محاولات الاستعمار المستمرة في إشاعة الفوضى السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العديد من بلدان الشرق الأوسط الأكثر فقرا باتت سياسات مكشوفة غايتها زيادة معدلات هجرة الشباب والعقول والخبرات إليها والاستفادة منها في عمليات التنمية والابداع.
ومن أبرز المؤثرات التي تزعزع ثقافة الشباب العربي وتضعف من قدراتهم في التأقلم والعيش في بلدانهم هي الحرب والتحديات الفكرية التي تثار بين الحين والآخر بدواعي دينية وعرقية واثنية وطائفية واقتصادية وتستهدف فئة الشباب على وجه التحديد ومحاولة زعزعه ثقتهم بأوطانهم وحكوماتهم وحتى أديانهم وتراثهم الفكري والحضاري واغرائهم بحياة أفضل في ظل أنظمة سياسية ديمقراطية متطورة كما يزعمون حتى أصبحت الهجرة إلى الغرب سياسة عامة تساور مخيلة شبابنا العربي على اختلاف مستوياته الفكرية والثقافية للأسف الشديد، وهي حقيقة لابد من إيجاد المزيد من الحلول للحد منها وتغيير قناعات الشباب بأهمية دورهم الثقافي والحضاري اتجاه شعوبهم وأوطانهم التي عانت الكثير من الويلات والأزمات جراء خسارة هذه القدرات الفتية الواعدة.
الشباب والمتغيرات الفكرية المعاصرة
فرضت مبادىء التحضر العالمي الجديد الذي اتصف به قرننا الحالي العديد من المفاهيم والنظم الاقتصادية والاجتماعية والتقنية التي سادت لفترات طويلة عاشت في ظلها المجتمعات البشرية متكيفة بواقعها التكنولوجي الذي شهدته فبعد الثورة التقنية التي احدثتها اجهزة الكومبيوترات خلال فترة ستينيات القرن الماضي وما تلاها والتي احدثت نقلة كبيرة في مجال التعامل مع المعطيات بدقة وثبات وجعلت الباب مفتوحاً أمام تطلعات العقل البشري في السير نحو التطور المستمر في مجالات الحياة شتى إلا أن كل ذلك لم يقف أمام اشباع حاجات الانسان المتزايدة في بيئات حضرية حاضنة بالتطور التكنولوجي حتى ظهرت شبكة المعلومات الدولية (الانترنت) في بداية الألفية الثالثة وما تبعها من تعاظم في شبكة الاتصالات (ICT) التي اسهمت في زيادة مفهوم الرفاهية وأساليب الحياة الكلاسيكية لا تتناسب مع احتياجات الانسان في ظل تزايد التقنيات الرقمية ودخولنا في منعطف العالم الرقمي الذي تسوده الافتراضية المتحققة من فضاءات الشبكة العنكبوتية وما لازمها من سرعة انتقال الانسان في منظومتي المكان والزمان عبر الفضاء الافتراضي من حزم البيانات فائقة السرعة والتحكم.
كل هذه الثورة المعلوماتية ساقت المدينة الى حالة اكثر ذكاءاً وحكمة من ذي قبل لتندمج مع حالة الابداع والابتكار الفكري المتحقق في عالم الاتصالات وذلك لتكن اكثر قدرة على استيعاب متطلبات الانسان الجديدة، لقد فرضت التكنلوجيا الحديثة واقعاً ثقافياً قبل كل شي وأصبحت وسائل المعرفة تحرك كل المتغيرات الحياتية للفرد والمجتمع على حدا سواء.
وأصبحت الطروحات الفكرية المعاصرة اكثر تزايداً وسرعة في التفاعل والقبول من ذي قبل وبات الانسان المعاصر يمسي على ثقافة ويصبح على ثقافة أخرى بفعل الكم الهائل من المعلومات وسرعة تداولها بين الأفراد والمجتمعات وهذا الواقع بحد ذاته جعل من عموم المجتمع في حالة من الاندماج والتقارب والتواصل وبالخصوص فئة الشباب التي تعد المحرك الأساسي لهذه الثورة المعلوماتية بامتياز، ومن المميزات التي تميزت بها حقبة الانترنت هذه هي كمية البيانات الهائلة على كافة المجالات والصعد فضلا عن سرعة تداولها والتفاعل معها بما لا ترك مجال للفرد للتفكير والتأمل أو حتى التحقق من صحة المعلومة من عدمه هذا الحال جعل من منظومة التفكير الحديثة تتسم بالسرعة في اتخاذ القرارات الحاسمة دون الركون إلى المبادى الأساسية والثوابت بل حتى هذه التحديات وسبل الوقاية.
الثوابت والأسس أصبحت في الكثير من الأحيان من تراكمات الماضي السحيق في نظر الكثيرون مما قد يولد فقدان الرؤية الرشيدة كما قد يولد حالة من الانفصام الحضاري بين التراث والتاريخ والمستقبل للشعوب وحتى الحضارات فزيادة سعة المعلومات وتدفقها عبر وسائل اتصال متنوعة (التلفاز، الموبايل، الحاسوب، الانترنت ... الخ) خلق ارباك ثقافي واضح وتحدي معرفي مستمر لا يعطي الفرصة لربط الاحداث والمتغيرات بشكل منطقي وانما يعالج ظاهرة بظاهرة أخرى قد تكون ليس بالمستوى المناسب لطرحها كعلاج أو بديل ولكن الأهم في عصر التكنلوجيا هو عدم التوقف للنظر في الاحداث.
وانما متابعة السير مع توفر بدائل متنوعة بصرف النظر عن أهمية تلك البدائل وطرق معالجتها للأحداث ، لذا فكثرة الانحرافات الفكرية ومظاهرها المتنوعة هو نتيجة هذه السرعة الفائقة في معالجة الأمور وعدم وجود مساحة من التفكير المناسب لاتخاذ القرار الصحيح أو على الأقل المناسب وبذلك يبقى تفكير شبابنا مرهون بما تطرحه الثقافة التكنلوجية حتى وان كانت بعيدة من الأسس المنطقية والثوابت العقلية والتاريخية للعقل .
وهنا تكمن خطورة هذه السرعة وهذا التنوع الهائل في حجم البيانات الذي سوف يولد مشاكل وتحديات لا حصر لها على مستوى الحضارة والامن الفكري والثقافة للمجتمعات الثقافية كافة.
اضافةتعليق
التعليقات