أغمضت الحوراء عينيها على نهرين من الدموع، وفاضت من صدرها آهة اغتراب .
عادت بها الأقدار إلى أرض المحنة، حيث تتوالى على الروح ذكريات لا تُنسى؛ عن أسر، وقيد، وشماتة، وفرح مشؤوم، عن رؤوس تزهو على الرماح، ونساء وأطفال في ربقة القيود .
فما الذي دفع السيدة زينب (عليها السلام) للعودة إلى مدينة دخلتها أسيرة محاطة مع عائلتها بجلاوزة الحكم الأموي، وتحت سياطهم وسيوفهم؟
لا يمكننا أن نفترض أنها عادت إلى الشام بإرادتها، وإن كانت هناك رواية تقول إنها خرجت مع زوجها عبد الله بن جعفر عندما حصلت مجاعة في المدينة، ولأنه كان يملك في بلاد الشام ضيعة أو بستانا .
لذا لابد يُطرح أمام الباحث -وبقوة - احتمال أن تكون حُملت قسرا ونفيت بأوامر من الطاغية يزيد لعنه الله.
فالنفي والإبعاد إجراءان طالما قامت بهما السلطات الجائرة ضد معارضيها على مرّ الزمان وليس ببعيد أن تكون السيدة زينب (عليها السلام) قد تعرّضت لهذا الإجراء التعسّفي الجائر بعد عودتها للمدينة!.
إن الدور الفعّال الذي قامت به السيدة زينب (عليها السلام) ومشاركتها لأخيها الحسين (عليه السلام) في ثورته لا يخفى على أحد، لكن التأريخ لم ينقل لنا سوى القليل مما فعلته بعد عودتها إلى المدينة .
لقد عاشت السيدة زينب بعد أخيها الحسين عاما واحدا، وكانت مع من بقي من أهل البيت في حداد مستمر، كما ورد في الرواية عن الامام الباقر (عليه السلام): "ما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت ولا رُئيَ في دار هاشمي دخان خمس حجج" .
لكن السيدة زينب (عليها السلام) حوّلت حزنها إلى ثورة من نوع آخر، ووظّفت المأساة التي مرّت بها لفصل جديد من فصول المواجهة مع أعدائها منذ اللحظة الأولى التي دخلت بها إلى المدينة بعد عودتها من الشام؛ حيث توجّهت مباشرة نحو مسجد جدّها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأخذت بعُضادَتي باب المسجد ونادت ببكاء ونحيب: « يا جدّاه إنّي ناعية إليك أخي الحسين» .
فكان ذلك المجلس الحسيني في حشد من أهل المدينة الذين خرجوا لاستقبال الركب الزينبي، مظاهرة في وجه الحكومة المحلية التي تمثل سلطة يزيد وسطوته.
ثم أصبح برنامجها اليومي إقامة المجالس التي تذكّر الجماهير بمظلومية أخيها الحسين (عليه السلام)، وما جرى على أهل بيت النبوة من الفجائع العظيمة من قتل وتمثيل وأسر ، فكانت تلك المجالس كفيلة بتأجيج عواطف الناس وكراهيتهم، وبالتالي تحريضهم على الحكم الأموي الفاسد، ولعلّ ما حدث بعد ذلك من ثورات وانتفاضات ضد الحكم الأموي كانت نتيجة لجهود العقيلة وجهادها، مضافا لما قام به الإمام السجاد (عليه السلام)، فقد تضافرت جهودهما وسعيا معا لإكمال مسيرة الثورة الحسينية من خلال حزنهما العميق والصادق، وإثارة المشاعر بالحديث الدائم عن أحداث كربلاء ومظلومية أهل البيت والذي ينطوي على تحدٍ كبير للسلطات، لأن الحديث العلني والمستمر عن ظلم الحاكم وتجاوزه على عترة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وعلى مرأى ومسمع من جلاوزته وجواسيسه يعكس شجاعة لا تقل عن شجاعة المواجهة في ميدان الحرب!.
تقول الكاتبة بنت الشاطئ: " لم تمض زينب إلا بعد ان أفسدت على ابن زياد ويزيد وبني أمية لذة النصر، وسكبت قطرات من السمّ الزعاف في كؤوس الظافرين؛ فكان نصرا مؤقتا تحوّل إلى هزيمة نكراء قضت على دولة بني أمية إخر الأمر".
فلا غرابة بعد كل هذا أن نرى التقارير تُرفع ليزيد لعنه الله من واليه تحذّره من السيدة زينب، وتحرّضه على إبعادها من المدينة: "إن كان لك في المدينة حاجة فأخرج منها زينب " .
وفعلا تمّ إبعاد السيدة زينب (عليها السلام) إلى الشام لتسلّم هناك الروح في أرض الغربة والمحنة، بعد أعطت للأجيال درسا عميقا بأن الحزن على مصائب الدهر ليس حالة سلبية تدفع صاحبها إلى اليأس والانطواء والعزلة، وربما إلى السخط على قضاء الله وقدره، بل الحزن من وجهة نظر السيدة زينب حالة إيجابية فعّالة، تمتلك القدرة على تغيير الواقع، وخلق وضع جديد حتى ولو تمثل ذلك بالمواجهة الباسلة مع حكام الظلم والجور .
رحلت عقيلة بني هاشم بعد أن اكملت امتحانها بنجاح، وقطعت رحلة الحياة بإخلاص ويقين، وقضت سنوات عمرها الشريف في جهاد رساليّ متواصل أقامت من خلاله صروح الحق، ونسفت أبنية الجور والطغيان؛ فأشرقت الحقيقة من أشراقة مواقفها الخالدة .
رحلت في مدينة دخلتها يوما أسيرة؛ لأن مشيئة الله اقتضت ان تحتضن تلك المدينة جثمانها الطاهر، ويقام فيها مشهدها المقدس، وليبقى ذلك المشهد شامخا وعزيزا يحكي قصة زينب وصبرها، وصمودها، ومواقفها البطولية التي يعجز عن محوها طواغيت العالم مهما تكاتفوا واتحدوا .
اضافةتعليق
التعليقات