لا خسارة تفوق خسارة الحصول على مصادر المعرفة، ولا ضياع يعادل ضياع المكتبة، سواء أكانت المكتبة مادية زاخرة بالكتب، أم مكتبة معنوية متمثلة في إنسان خبر الحياة وعرفها ولم يوثق تجربته ولم يُنقل عنه علمه وخبراته، وبالتالي تضيع الكنوز الثقافية والأدبية التي امتلكها، وقريباً من ذلك تقترب أهمية ووجود المكتبات العامة والخاصة في المجتمع، والتي تمثل منارة أو مورداً ثقافياً لا ينضب، وهذا ما كانت عليه مكتبات عريقة ومشهورة في مدينة فاس العاصمة العلمية للمملكة المغربية، التي تأسست في القرن الثاني الهجري في عهد إدريس بن عبد الله مؤسس دولة الأدارسة عام 172هـ الموافق 789م وبناها على الضفة اليمنى لنهر فاس.
للأسف الشديد، لم تستطع المكتبات القديمة في فاس العاصمة العلمية للمملكة المغربية، الصمود طويلاً، ولم تسعفها سمعتها العريقة وتاريخها القديم في إعطائها المزيد من الأمل بالبقاء ومجابهة الثورة التكنولوجية التي أفرزت الكتب الإلكترونية، لقد أعلنت عن إغلاق أبوابها لأسباب خاصة، مع أن هذه المكتبات قد كوّنت جمهورها الذي يأتي إليها لاقتناء الكتب الثمينة والنادرة، كما شكلت منفذاً لكل متعطش وباحث عن أمهات الكتب القديمة.. فأصحاب المكتبات العريقة والتاريخية، ضجروا من رؤية شباب اليوم مسلحين بشتى أنواع التقنيات الحديثة، لاسيما بعد أن رأوا الغبار يحوم حول كتبهم فقرروا الذهاب بعيداً عن متاهة بيع الكتب، لينتهي بهم المطاف إلى أرشيف التاريخ.
اعتقدنا للوهلة الأولى أن ما آلت إليه المكتبات القديمة ينحصر في إطار حالة عارضة ومؤقتة، لنراها اليوم تتجلى بأسى وحزن شديدين، فأهم المكتبات الفاسية العريقة تواجه المصير نفسه، بعضها يغلق تحت وطأة التقنية الحديثة والبعض الآخر ينسحب من المشهد مفضلاً اختصاصاً جديداً أكثر مسايرة لمتطلبات مجتمع اليوم، وقليل منها يؤثر بيعها لصالح مطعم أو بيع الملابس..
فظاهرة إغلاق المكتبات القديمة لم تقتصر على مدينة فاس فقط، وإنما تعدّى المشهد ليصل إلى باقي المدن المغربية، فالعديد من المكتبات القديمة والمشهورة والتي ساهمت في فترة من الفترات بإثارة حراك مجتمعي هام، وكان لها دور لا بأس به في إرساء الثقافة، وهذا مثبت تاريخياً، نراها الآن مغلقة وخاوية ومنعزلة، قد تآكلت لوحاتها وجلس أصحابها متقوقعين على أنفسهم ليدور حديثهم حول معاناتهم من عدم زيارة أحد لمكتباتهم، وأحياناً يحتالون على ذاتهم بتعزية أنفسهم بأنّ للجيل توجهاته واهتماماته المختلفة، وهذا حقهم المشروع.
ومن خلال زيارة ميدانية لعدد من المكتبات بالعاصمة العلمية، لاحظت أن معظمها غاب نهائياً، مثلاً كانت هناك مكتبة بفاس الجديدة لكن لم يعد لها أثر، مكتبة أخرى ببوجلود أغلقت أبوابها منذ عدة سنوات، مكتبة أخرى بالصفاح تحولت إلى دكان لبيع مواد جلدية وغيرها. أما منطقة الطالعة الصغرى التي كانت معروفة بمكتباتها، فلم يبق منها إلا القليل، حيث اندثرت أهم مكتبة وأعرقها مكتبة القادري التي تعود إلى العقد الثاني من القرن 20 وكانت متخصصة في بيع الكتب العربية والإسلامية وتجليد الكتب، إضافة إلى أنها كانت تضم نفائس المخططات...
مع بداية الثمانينات من القرن العشرين، أغلقت معظم هذه المكتبات أبوابها، وتحوّلت إلى محلات، تجارية لبيع لوازم الصناعة التقليدية، والإلكترونيّات، ولم يبق من مكتبات سوق ''العطارين'' على سبيل المثل لا الحصر، سوى الإسم.
أصحاب تلك المكتبات يعللون ذلك بسبب تراجع مبيعات الكتب، وارتفاع أسعار الكتب، وهذا يعطي مؤشّرا واضحاً لانصراف الجمهور العريض عن القراءة، بعامّة، وليس بخاصّة، وهذا ساعد على إقفال أصحاب المكتبات التاريخية أبواب مكتباتهم، لتتحوّل إلى مطاعم، ومحلات لبيع أنواع الملابس، والحاجيات، والإلكترونيات وأجهزة الهواتف النقالة وكل مستلزمات الخياطة التقليدية... ما دامت هذه المشروعات، والسلع، تدرّ عليهم أرباحاً وفيرة، وسريعة، بدلا من انتظار ''الذي يأتي ولا يأتي'' من مردود غير مضمون هو في عالم الغيب من وراء بيع كتب تغفو على رفوف المكتبات التي لا يتردّد عليها إلا القلّة من عشّاق ''خير جليس'' هم من بقايا زمن القراءة الذهبي في سبعينات، وثمانينات، وتسعينات القرن الماضي، يوم كانت المكتبات تضجّ بالزبائن، رغم انّها ما زالت كذلك في أماكن محدودة، بينما الحال مختلفاً في البلدان الأوروبيّة التي ما زال القرّاء يقفون طوابير عند صدور رواية جديدة، يعلن عنها، أو كتاب ما، وبذلك فالمكتبات هناك مشروعات تجاريّة ناجحة، لذا فهي في حالة تزايد مستمر.
ففي مرحلة تاريخية سابقة نشطت المكتبات وبات لمشاركاتها في المعارض الدولية والمحلية والعربية أهمية كبيرة، وليس هذا في المناسبات فحسب كذلك في ذاكرة الشارع المغربي وإلا لما بقي إسمها محفوراً في ذهن الأجيال وفي مقدمتها الجيل الجديد. إنّ نظرةً متأنيّة لمحتويات هذه المكتبات في الزمن الجميل، تجعلنا ندرك أنّها كانت تقدّم بضاعتها خارج أيّة قيودٍ دينية أو ثقافية أو سياسية أو أدبية، أي أنها كانت تقدّم ثقافة عفوية دون تزييف أو تحزّب، فالزائر لأية واحدة منها كان يجد جميع أنواع الكتب: من الأبراج وصولاً إلى الكتب السياسية والدينية حتى الكتب الأجنبية. وهكذا تجد كتباً لعمالقة الشعر العربي زمن الجاهلية جنباً إلى جنب مع أشعار نزار قباني ومحمود درويش والماغوط وأدونيس وغيرهم... كما تجد كتب السيرة النبوية الشريفة قرب كتب جان بول سارتر، ولينين، وكارل ماركس، وروايات نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف إلى جانب أعمال إميل زولا، وهنري ميلر، وماركيز، وسيرة بني هلال وعنترة العبسي والزير سالم إلى جانب ترجمات أشعار شكسبير وبودلير وسان جون برس... إضافة إلى الكم الكبير من الكتب الأجنبية بلغاتها الأصلية وفي شتى أصناف المعرفة والأدب والعلم.
تلك ميزة لا نجدها في معظم المكتبات العمومية... فالمكتبات كانت تقدّم نفسها إلى القارئ بحرّية وتترك له فرصة الاختيار بحريّة أيضاً. لكنّ السؤال الذي يبرزُ الآن أمام جيل الأنترنت: من كانت الأغلبية التي كانت ترتادها وتستفيد من هذا الهامش الحر الذي قلما قدّمته وتقدّمه مؤسساتنا الثقافية؟ وما هي أكثر أنواع الكتب والعناوين إقبالاً من الزبائن؟
لابد أن نوضح قبل كل شيء، كان هناك خليط من الزبائن من مختلف المستويات العلمية والفكرية والثقافية والاجتماعية... وهذا أمر طبيعي، لكنّ أغلبية الروّاد في زمن ''إقرا'' كانت من المثقفين والدارسين والباحثين وطلاب الجامعات، الذين كانوا يجدون في المكتبات العريقة ما يحتاجون إليه من كتب ومراجع مفقودة هم بحاجة إليها لغاية ما. أمّا على صعيد نوعية الكتب الأكثر مبيعاً وموضوعاتها آنذاك، فتأتي الرواية في المقدمة، فثمّة إقبال شديد على قراءة الروايات، بخاصة الأجنبية منها، مثل أعمال ماركيز وكونديرا والليندي... وغيرهم، إضافة إلى روائع نجيب محفوظ، وعبد الرحمن منيف. في المرتبة الثانية، جماهيريّاً، يأتي الكتاب الديني الذي يلقى رواجاً كبيراً لدى شريحة مهمة من القرّاء. كان ما يسمّى لدى أصحاب المكتبات ''مواسم للبيع''، ففي فترة الامتحانات الجامعية كان يزداد بيع الكتب الجامعية والمراجع، وأثناء شهر رمضان المبارك يكثرُ بيع كتب القرآن الكريم وكتب السيرة النبوية الشريفة. أمّا أثناء الشهر الأخير من السنة والشهر الأول من السنة التي تليها، فقد كانت العادة أن يتضخّم بيع كتب التنجيم والأبراج والحظ والتوقعات... وهكذا كان لكلّ وقتٍ أذان.
وشتان بين الأمس واليوم! فالمكتبات اليوم في فاس أصبحت تعيش واقعاً لا تحسد عليه، فهي وجدت نفسها أمام حل لابد منه وهو الإغلاق لأنها تعاني من قلة الزوار وندرة الرواد أولاً، وكذلك من الخسارة المتلاحقة ثانياً. نعم تحولتّ أقدم مكتبات فاس إلى مخازن لتسويق الملابس وإلى صيدليات ومطاعم بعد أن كتب تاريخها بأحرف من نور رسخت في البال طويلاً، دفعت بروادها إلى الاستغناء عنها.
فبعد عمرٍ مديد حافل بالجد والنشاط، مات أغلب أصحاب المكتبات العريقة بفاس، الذين لم يقتنعوا يوماً بمواصلة جمهورهم القراءة عن طريق الحواضن الرقمية، لتبدأ ''الشمعة، المكتبة بالانطفاء والتلاشي مع أنها قد أنارت العقول لسنوات، ونشرت الأفكار النيِّرة لعقود.
ومن المؤسف أنّ الكثير من الآباء أصحاب مكتبات عريقة بفاس، عجزوا عن نقل محبة الكتب والمطالعة لذريتهم من بعدهم مع سعيهم الحثيث نحو بلوغ ذلك الهدف، ومن المعلوم، أنّ الذرية تمتد للأحفاد، ذلك أنَّ نمط الحياة قد تغير ولم يعد فيه حيزاً للقراءة ولو ضئيلاً، فقد أصبحت اليوم وسائل أخرى أحدث للحصول على المعلومة، وأول ما يفكر به الورثة هو التخلص من المكتبات التي تراكمت كتبها على مدى سنواتٍ طويلة للحصول على مساحة الدكان لاستغلاله تجارياً، أو بيع المكتبة وتوزيع الثمن على الورثة، فإن لم يرض الشاري باستلام المكتبة ولو دون ثمن، فإنّ الورثة يبادرون للاتصال مع إحدى المكتبات العامة لقبول المكتبة بكل محتوياتها هدية، بذريعة نيل الأجر والثواب للمرحوم صاحب المكتبة، مصداقاً لقول الرسول الكريم: ''إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له''، ووضع الكتب في مكتبةٍ عامة هو من الصدقة الجارية والعلم الذي ينتفع به، لكن في حالة جهل الورثة بوجود المكتبات العامة ولأنهم في حالة سباق مع الزمن لأخذ نصيبهم من الإرث، فإنهم يبيعون درر وذخائر الكتب لأصحاب مكتبات الرصيف المنتشرة في كل الأماكن بيعاً بثمنٍ بخس، لا بل في بعض الأحيان: ''هز ودّي بلا فلوس'' مع دفع أجرة الشاحنة، فلا بدَّ من تسليم المكتبة للمالك الجديد فارغة في موعدٍ نهائي لا تراجع عنه.
وللأسف المأسوف عليه، ومع اختفاء المكتبات العريقة، أصبحنا نجد في معارض الكتب، مناسبة لمصافحة ''خير جليس''، وإشباع نهمنا للقراءة، ولقاء المثقفين، والأدباء، والناشرين، في محاولة للتعويض عن غيابها، بل صارت هذه المعارض المناسبة الوحيدة للقاء بالكتاب، وبالطبع هذا غير كافٍ لأنّ معارض الكتب تظلّ تقام في أيّام معدودة، كما هو الحال في معرض الدار البيضاء الدولي للكتاب.
لابد أن نعترف، أنّ الكم الهائل من المعلومات المتاح على شبكة الإنترنت يكاد يوحي للمرء أن كل شيء يمكن إيجاده على الإنترنت وهذا ليس صحيحاً، فالمكتبات مؤسسات مختلفة تماماً عن الإنترنت، فالأخيرة تكملها ولا تحل محلها، والمواد التي يمكن الحصول عليها عن طريق المكتبة هي الكتب وغيرها من المصادر، واستخدام البحث على الإنترنت يفيد في تبسيط الأفكار العامة، وتجميع الحقائق السريعة وقطاع عريض من الأفكار، لذا فالحديث عن إحلال واحدة محل الأخرى يبدو منافياً لأي تفكير منطقي. لذا فالتخلص من المكتبات أو إهمالها هو بتر لجزء هام من التطور الثقافي لمختلف الطبقات الاجتماعية.
وما يميز المكتبات العريقة أنها من الممكن أقلمتها مع المتغيرات الثقافية والإجتماعية والتقنية ولكن لا يمكن إحلالها أو التخلي عنها، وبالرغم من أن العديد من المعلومات توجد على شبكة الإنترنت ولكن الكثير لا يزال موجودا على الورق. فالحاجة للمكتبات التاريخية العريقة، تظلّ قائمة، وهذه لن يتحقق إلا بدعم حكومي، ومؤسساتي لهذه المكتبات، وصناعة الكتاب، لكي لا تمتلئ الرفوف المخصّصة للكتب في المتاجر بالبضائع الاستهلاكيّة، التي تعرض أدوات الماكياج، والحقائب، والملابس وتعتني بغذاء المعدة، لا غذاء العقول.
إن المدينة التي لا توجد بها مكتبات هي بلا شك مدينة فاقدة للروح، لأن المكتبات بمثابة الرئة من الجسد، ولا يمكن للمكتبات الإلكترونية أو النشر الإلكتروني أن ينافس الكتاب الورقي مهما تطورت التقنية التكنولوجية، فعلاقة الإنسان بالكتاب ورائحة الورق، أقوى بكثير من ورق الشاشات، لهذا فإن وجود المكتبات في أية مدينة يُعد إضافة لها، ليس لإحداث توازن بين التطور المادي والجانب الروحي، بل لإيجاد بيئة حاضنة لمنابع القراءة التي لم تعُد ترفاً بل ضرورة، وثقافة يجب أن تتأسس وتتغلغل في المجتمع، بخاصة وأننا ننتمي إلى الأمة التي خاطب الله نبيها بكلمة (اقرأ)، وعلى فعل القراءة يتحدد معيار التقدم بالنسبة للمجتمعات، وعلى أساسها يقاس الوعي الفردي والجمعي، ولهذا نأمل أن تتأسس مكتبات عامة أو حتى خاصة في كل المدن المغربية، لأن وجودها ليس ضرورياً للساكنة فحسب، بل للزائرين الذين يأتون من بقاع الدنيا للتعرف على الكنوز الحضارية بالمغرب.
اضافةتعليق
التعليقات