"سلوني قبل أن تفقدوني" عبارة لم يقلها أحد سوى الإمام علي (عليه السلام)!
فهذه المقولة وما تعكسه من مكانة علمية رفيعة، وقدرة معرفيّة فذّة من مختصّاته لا ينازعه عليها أحد حتى الأئمة من ذريّته الذين ورثوا علمه؛ لذا قال (عليه السلام): "لا يقولها بعدي إلا مدعٍ أو كذّاب مفتر".
كما كان لقب "أمير المؤمنين" لا يليق إلا به، حيث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
"وهو أمير المؤمنين حقاً لم ينلها أحد قبله وليست لأحد بعده"
"سلوني قبل أن تفقدوني"
قالها (عليه السلام) في أكثر من مجلس، وفي مناسبات شتى، وفي كل مرة كان يقرنها بإضافات تكشف سعة علمه وتنوّعه:
"سلوني قبل أن تفقدوني، فأنا لا أُسئَلُ عن شئ دون العرش إلا أجبتُ فيه" .
سلوني قبل أن تفقدوني، ألا تسألون من عنده علم المنايا والبلايا والأنساب؟ .
"سلوني قبل أن تفقدوني فإن عندي علم الأولين والآخِرين".
"سلوني قبل أن تفقدوني؛ فلأنا بطرق السماء أعلمُ منّي بطرق الأرض" وغيرها كثير؛ كيف لا وهو باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وحلقة الوصل العلمية بينه وبين الأمة كما قال (صلى الله عليه وآله): "أنت العلم بيني وبين أمتي بعدي ".
من الطبيعي أن يسأل الإنسان عمّا يجهله؛ لأن ذلك من الغرائز الطبيعية لدى البشر عموما، والتي تدل على تطور جهاز الإدراك والتفكير عندهم، وهذا ما يميّزهم عن الحيوان؛ فالإنسان جهله بسيط فهو "يعلم إنه لا يعلم" لذا يسعى ليتعلّم، والسؤال أحد الطرق للوصول إلى رحاب العلم والمعرفة، يقول الإمام الباقر (عليه السلام): " ألا إن مفتاح العلم السؤال".
ولكن الأمة - للأسف - لم ترقَ إلى المستوى الذي يمكّنها من استثمار ذلك العرض السخي من إمامِها، واقتناص تلك الفرصة الثمينة للاستفادة من علمه الزاخر لتفوز بخير الدنيا والآخرة؛ فلم ينهل -سوى القليلون- من ذلك المعين العذب .
لقد سبق الإمام (عليه السلام) عصره بمراحل زمنية طويلة، وعاش غربة العالِم الذي يعيش بين قوم جهلاء.
في أحد المجالس أعترضه أحدهم بسؤال غريب: "كم شعرة في راسي؟"
سؤال ينطوي على نية خبيثة؛ فهل كان يسخر من إمام زمانه، أو كان يحاول تشتيت ذهنه، أو إضاعة وقته؟ ربما تكون هذه الأهداف مجتمعة وراء طرح ذلك السؤال السخيف! .
الإمام عليه السلام كان يعرف الإجابة قطعا، ولكن أنّى له بإثبات صحتها لذلك الشقي، لذا أجابه بما يكشف له قبح سريرته: "أما والله إني لأعلمُ ذلك ولكن أين برهانه لو أخبرتك به؟ ولقد أُخْبِرتُ بقيامك ومقالك وقيل لي: إن على كل شعرة من شعر رأسك ملكاً يلعنك وشيطاناً يستنصرك ".
والأكثر من ذلك إن الإمام (عليه السلام) فتح له نافذة الغيب، وأخبرة بسوء عاقبته في ذريّته، وإن أحد أبنائه -الذي كان رضيعا في ذلك الوقت - سيكون أحد القادة في الجيش الأموي الذي سيخرج لقتال الحسين، وقد تحققت نبوءة الإمام عليه السلام، وصدق الله إذ يقول:
(وَٱلَّذِی خَبُثَ لَا یَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدࣰاۚ ).
كل هذا الجفاء والجهل الذي أُحيط به أمير المؤمنين (عليه السلام) جعله يتحسّر على ما يحمله من كنوز علمية ستبقى طي الكتمان لعدم وجود المؤهلين لحملها، ففي حديث له مع كميل يقول:" إن هاهنا لعلماً جماً، وأشار بيده إلى صدره الشريف، لو أصبت له حملة" .
ومع هذا لم يكن الإمام (عليه السلام) ضنينا بعلمه، بل كان يتحرّى من بين خواصّ أصحابه وحواريه من له اللياقة لحمل شذرات من ذلك العلم الجمّ، وكل حسب استعداده وسعة وعائه، كميثم التمار، ورُشيد الهجري، وصعصعة بن صوحان وغيرهم .
أما كميل بن زياد فقد نال شرفاً عظيماً بأن اقترن اسمه بواحد من أروع الأدعية المأثورة عن الإمام علي (عليه السلام)، ولولا فضوله العلمي، وطرحه السؤال في وقته المناسب لما وصل إلينا ذلك الدعاء العظيم!.
ففي أحد المجالس ذكر الإمام (عليه السلام) دعاء الخضر، وشرح فضله وخواصه، فلم يشعر أحد من الحضور بالفضول ليسأل الإمام عن نص الدعاء حتى انفضّ المجلس، فلحق كميل بالإمام وسأله أن يعلّمه الدعاء فأملاه عليه فكان أن حمل الدعاء اسمه إلى يومنا هذا!.
لنتعلّم من كُميل أن لا نفوّت فرصة ونحن بحضرة العلماء دون أن نستفيد منهم علماً يقودنا إلى رشد أو هدى، وأن نسأل تفقّهاً لا تعنّتاً كما أوصانا أمير المؤمنين (عليه السلام)
اضافةتعليق
التعليقات