کما أن للفرد سلامة وسقم وصحة ومرض، تتمتع الأمم والمجتمعات بالسلامة تارة، وتصاب بالداء تارة أخری. ولكي تكتشف الدواء علیك أولا أن تتمرکز علی الداء لتعرف ما هو؟ وما هي أسبابه؟ وکیف الطریق إلی العلاج؟
الإمام الحسین (علیه السلام) في کلامه أثناء مسیره إلی کربلاء یتحدث عن المجتمع السقیم، والداء العضال الذي یجعل المجتمع یفقد سلامته؛ حیث یقول (علیه السلام): «إِنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا قَدْ تَغَيَّرَتْ وَ تَنَكَّرَتْ وَ أَدْبَرَ مَعْرُوفُهَا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ وَ خَسِيسُ عَيْشٍ كَالْمَرْعَى الْوَبِيلِ أَ لَا تَرَوْنَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يُعْمَلُ بِهِ وَ أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُتَنَاهَى عَنْهُ.[1]
الإمام (علیه السلام) یرسم صورة تمثیلیة عن مدی الحیاة وقیمتها. فمداها «كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ» وقیمتها «خَسِيسُ العَيْش».
التمثیل الأول یشیر إلی کم الحیاة وطولها؛ فالحیاة الدنیا مهما کانت طویلة فإنها قصیرة؛ کما وصفها أمیر المؤمنین (علیه السلام) «فعیشك قصیر».
والتمثیل الثاني یتحدث عن قیمتها: خَسِيسُ عَيْشٍ. الخسیس یعني الشيء الدنيء والحقیر والوضیع.
ثم یستخدم تشبیها للمعقول بالمحسوس لیرسم لنا صورة أجلی لهكذا مجتمع: كَالْمَرْعَى الْوَبِيلِ.
المَرْعَی هو موضع الماشية من العُشب والكلأ؛ والمفترض أن یكون سلیما لینمی المواشی؛ ولو کان وبیلا، تمرضت المواشي ولا یتوخی الهدف منها. المجتمع السقیم کالمرعی الوبیل، یعتل فیها السلیم ویسقم فیه الصاحي.
یاتری أي مجتمع هذا؟ وأي مواصفات تجعل المجتمع کالمرعی الوبیل؟ ولندرس مجتمعنا من خلال الرؤیة الحسینیة لنعرف مدی سلامته أو سقمه. لأن معرفة الداء نصف الدواء؛ کما في شعر منسوب إلی أمیرالمؤمنین (علیه السلام):
دواوئك فیك وما تبصر و دائك منك وما تشعر
لكي نتمكن من الإصلاح، علینا أولا معرفة الجذور، وإدراك الداء الكامن في الأمة؛ وهذا الكلام یرسم لنا ضابطة لمعرفة الداء؛ فالمجتمع الوبیل یتسم بصفتین؛ هما أَنَّ الْحَقَّ لَا يُعْمَلُ بِهِ وَأَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُتَنَاهَى عَنْهُ.
فلو أنك رأیت الحق مهجورا غریبا في المجتمع، فهذا یعني أن داءً أصاب هذا المجتمع؛ ولو أنك رأیت الباطل یجول بجولته من دون أن یُنهی عنه، فهذا یعني أن الداء أصبح زمیناً في هذا المجتمع؛ والحیاة في هكذا مجتمع عیش خسیس فاقد للقیمة.
لأجل ذلك علینا أن نخلو بذاتنا أولا؛ لنعرف هل أن حیاتنا مبنیة علی أساس الحق؟ أم أنها تتمحور علی أساس المشتهیات والملذات والشهوات؟ دوافعنا في المأکل والمشرب والملبس منطلقة من منطلق ربانی أم أنها تنبع من الهوی؟
ویأتي بعد ذلك دور العائلة؛ فهل بنیناها علی أساس اتباع الحق واجتناب الباطل؟
المجتمع لیس إلا ترکیبا للآحاد؛ فلو کانت اللبنات صالحة مستقیمة سیكون المجتمع صالحا مستقیما.
شابة تتحدث عن حیاة کئيبة ملؤها الأحزان والآلام وتقول: «سئمت هذا العیش؛ فقررت أن أخلو بذاتي لاکتشف السر وراء هذه النفسیة المدمرة. عند التأمل عرفت أن السبب یکمن في متابعتي لصفحات مدوني المحتوی (البلوغر)؛ الذین یسلطون الضوء علی صور مشرقة من حیاتهم. کانت حیاتي دوامة بین المقارنة والحسرة مما جعلني أشعر بالاکتئاب والضجر. لذلك قررت مغادرة کل هذه الصفحات التي لم یكن لها نتاج إلا الحسرة.
وتنقل أخری أنها کانت تتمتع بحیاة سعیدة مع زوجها وأولادها، حتی تم استضافتها فی قناة تصرخ بالحریة وحقوق المرأة وتروي قصة حكایتها قائلة: «بدأت أردد تلك الشعارات الخلابة من دون أن أدرك مغزاها. تغیرت حیاتي؛ وأصبح زوجي لا یطیق طریقتي في الحیاة؛ فطلقني. في البدایة شعرت بحریة موهومة ملقَّنة؛ لكن بدأت الحیاة تكشف لي عن واقعها. ندمت علی طریقتي و لكن لا جدوی؛ خسرت زوجي وعائلتي ومكانتي في المجتمع. وها أنا الیوم فقدت حیاة سعیدة لانخداعي بتلك الشعارات».
المرجعیة الفكریة في المجتمع الوبیل لیس للحق وأهله، بل لأهل الباطل وحملات الإعلان ومدوني المحتوی فی مواقع التواصل.
للمجتمع الوبیل سمة ثانیة وهي عدم انتهائها عن الباطل.
فلنلق نظرة متأملة في ذواتنا، وعوائلنا ومجتمعنا لنری هل تنهی عن الباطل وهل تنتهي عنه؟
أم أصبح مجتمعنا یری المنكر معروفا والمنكر معروفا؟ حین تتصفح مواقع التواصل وتری تنافسا في تحدیات غیر عقلائیة، فهذا یكشف أن المجتمع یعاني من داء عضال لابد من علاج جذوره.
وأصحاب الحسین کانوا من الآمرین بالمعروف والناهین عن المنكر حتی آخر اللحظات وفي أحلك الساعات.
منهم قیس بن مسهر الصیداوي، وهو رسول الإمام (علیه السلام) إلی الكوفة. حین توالت الرسائل إلی الإمام (علیه السلام)، كتب الإمام الحسين (عليه السلام) كتاباً رداً على رسائلهم؛ ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى قيس بن مُسهِر الصيداوي وأمره أن يوصله إلى الكوفة. دخل الكوفة وهي بقبضة ابن زیاد؛ فأخذته شرطة عبيد الله بن زياد وأخذوا به إلی دارالإمارة. مزق قیس الكتاب قبل أن يقف بين يدي عبيد الله بن زياد. فقال له ابن زیاد:«لماذا مزّقت الكتاب؟»
قال: لئلا تعلم ما فيه.
قال: وممن الكتاب وإلى من؟
قال: من الحسين بن علي إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم.
فغضب ابن زياد، وقال: والله لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم أو تصعد المنبر، وتلعن الحسين بن علي (عليهما السلام) وأباه وأخاه، وإلا قطعتك إرباً إرباً.
قال قيس: أما القوم فلا أخبرك بأسمائهم، وأما لعن الحسين (عليه السلام) وأبيه وأخيه فأفعل.
فی هذه اللحظات الصعبة لم یخف قیس علی نفسه؛ بل استغلها للأمر بالمعروف؛ والنهي عن المنكر ودعوة الناس إلی نصرة سید الشهداء (علیه السلام). فصعد وحمد الله، وأثنى عليه وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله)، وأكثر من الترحم على علي (عليه السلام) وولده صلوات الله عليهم، ثم لعن عبيدالله بن زياد وأباه، ولعن عتاة بني أمية عن آخرهم، ثم قال: أيها الناس أنا رسول الحسين بن علي (عليهما السلام) إليكم وقد خلفته بموضع كذا، فأجيبوه.
عندما اُخبر الإمام الحسين باستشهاد قيس ترقرقت عيناه بالدموع؛ وقال:
"فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر" اللهم إجعل لنا ولهم الجنة منزلاً، وأجمع بيننا وبينهم في مستقر رحمتك، ورغائب مذخور".
إن الأمر بالمعروف هو (المفتاح)، وهو (عمود الخيمة)، وهو (بمنزلة القلب)، فإذا توقف القلب عن العمل، توقف وانهار البدن بأجمعه. وإذا تعطل فسيتعرض المجتمع كله للتصدّع والدمار، كما هو الحال في عمود الخيمة عندما ينكسر أو يتحطم، فمن المؤكد أن تنهار عندئذٍ الخيمة.
فهذه هي نقطة البداية في صلاح المجتمع، كما أن المفتاح لفساد المجتمع في الاتجاه المقابل، هو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
اضافةتعليق
التعليقات