من السهل أن نطلق الألقاب على شخصية معينة وأن نقرأ عنها وكيف وصلت إلى هذه المكانة، وكيف استطاعتْ أن تقف هذه الوقفة ومن أين استمدتْ هذه القوة وغيرها من الأسئلة التي نضعها أمام أصحاب الخلود ومن وضعوا بصمات في التاريخ أو استطاعوا أن يغيروا مسار معين في حياتهم أو حياة غيرهم.
ويوجد في تاريخ البشر عدد كبير من الرجال وعدد من النساء الذين نبغوا نبوغاً في شتّى الفنون والعلوم، فطار صيتهم في العالم، وكان نصيبهم من المجتمعات البشريّة كلّ إعجاب وتقدير، وإكبار وتجليل؛ لأنّهم امتازوا عن غيرهم بشتى المزايا، وكلّ إنسان امتاز بمزيّة أو بمزايا فمن الطبيعي أن يفضل على غيره من ناقدي تلك المزايا.
وقد كان أولياء الله في طليعة النابغين لتعدّد جوانب النبوغ فيهم، ومن هذه الشخصيات العظيمة هي السيدة زينب امرأة الثورة ولو نبحث في تاريخ هذه المرأة نجد حادثة تلخص دقتها في التعامل مع المعاني والمواقف التي كانت تنهلها من أبيها وأمها فضلا عن جدها سيد المرسلين، إنّها سألت أباها ذات يوم فقالت: أتحبّنا يا أبتاه؟
فقال الإمام: (وكيف لا أحبّكم وأنتم ثمرة فؤادي!) .
فقالت: يا أبتاه، إنّ الحبّ لله تعالى، والشفقة لنا.
إنّ هذا الحوار الجميل يدلّ على أكثر من معنى، فمن ذلك:
1 ـ جوّ الودّ والصفاء الذي كان يخيّم على دار الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، والعلاقات الطيّبة بين الوالد الرؤوف وبين طفلته الذكية.
2 ـ إنّ الحبّ ينقسم إلى أكثر من قسم، باعتبار نوعه ومنشئه، وأكثر انطباعات الإنسان النفسيّة يكون من أثر التربية، كما ومنطلقه، وكلّ قسم منه له اسم خاص به، لكن يطلق على الجميع كلمة (الحبّ).
فهناك حبّ الإنسان لله تعالى الذي خلق البشر، وأنعم عليهم بأنواع النعم، وهناك حبّ الوالد لأطفاله الذي ينبعث من العاطفة والحنان، وقد عبرّت السيّدة زينب عن هذا النوع بـ (الشفقة).
ونقرأ في كتب اللّغة أنّ الشفقة: هي العطف والحنان والرأفة والحنو، فهي إذاً فصيلة خاصّة من الحبّ تنبعث من قلب الوالدين لأطفالهما.
3 ـ المستوى الرفيع لتفكير السيّدة زينب رغم كونها في السنوات الأولى من مرحلة الطفولة.
بعد ذلك اهتمتْ السيدة بالعلم فهي تزقه زقا من عائلتها منابع العلم حتى إنها كانت تدرس النساء فورد في الكتب أن السيّدة زينب تعلّم تفسير القرآن لنساء الكوفة، وجاء في التاريخ أنّ جمعاً من رجال الكوفة جاؤوا إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) وقالوا: ائذن لنسائنا كي يأتين إلى ابنتك ويتعلّمنَ منها معالم الدين وتفسير القرآن، فأذن الإمام لهم بذلك، فبدأت السيّدة زينب بتدريس النساء.
ويعلم الله عدد النساء المسلمات اللواتي كنّ يحضرن درس السيّدة طيلة أربع سنوات أو أكثر.
وذات يوم دخل الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) الدار فسمع ابنته زينب تتحدّث للنساء في درسها عن الحروف المقطّعة في أوائل السور، وعن بداية سورة مريم بشكل خاص، وبعد انتهاء الدرس التقى الإمام (ع) بابنته، وقال لها: (يا نور عيني، أتعلمين أنّ هذه الحروف هي رمز لما سيجري عليك وعلى أخيك الحسين في أرض كربلاء؟)، ثمّ بدأ يحدّثها عن بعض تفاصيل تلك الفاجعة، وقد عاشت السيدة زينب مع أبيها فرأت ما رأت من خبراته وتعامله مع المواقف، كما عاصرت الأحداث والاضطرابات الداخلية التي حدثت، من واقعة صفين إلى النهروان إلى الغارات التي شنّها عملاء معاوية على بلاد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
هذا الانتفاع من حياة المعصومين مع ارتباطه بالعلم والعبادة صنع من السيدة زينب أيقونة الثورة، ومثالا لكل امرأة تقف أمام حاكم جائر تواجهه بكلمة الحق، وهذا لم يكن متحقق إلا بسبب تلك الجذور العميقة في المعرفة والعقيدة، وهذا ما تحتاجه كل إمرأة لتصبح ثائرة فالثورة التي تخلو من الايمان بالتغيير وعدم سلطة الجبابرة على حياة الأفراد، لا يمكن أن تنسب لثورة النساء المقتدية بأم الثورات، فهي لم تخف حينها من ذلك الطاغي ولم تضعف أمام سطوته، ولم تخضع له.
فهذه سيدة الصبر استطاعت أن تكتب تاريخا بعلمها وفكرها، وهذا كاف لتواجه المرأة صعوبات الحياة كافة.
اضافةتعليق
التعليقات