جاء في ختام سورة الإنسان قوله تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا} (الإنسان:٢٩) -فكما يبدو- إنه مفتاح تصنيف الناس فيها وهو التذكير النابع من الفطرة التي جبلت على التوحيد، وذلك عبر رسله كما ورد في نهج البلاغة بقول الأمير (عليه السلام): [فبعثَ فيهم رُسُلَهُ، وَواترَ إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم الآيات المقدّرة](١).
وما يؤكد ذلك هو ابتداء السورة بسؤال تذكيري، إذ قال تعالى: {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}(الانسان:١)، فهذا السؤال بقدر ما هو سؤال استدلالي عقلي يُذكر الإنسان بأصل خلقته، وكيف أنه كان عدماً، ثم تفضل الله تعالى عليه فخلقه وجعله شيئا مذكوراً، عزيزاً، مكرماً على سائر مخلوقاته.
بقدر ما هو سؤال يوجب للذاكرين حصول تفاعل نفساني وعملي، إذ قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا(٢)}، فعبارة {نَبْتَلِيهِ} هي تلخص لنا مسؤوليتنا تجاه علة خلقنا، وتجاه النعم التي مُيزنا بها عن سائر المخلوقات، كما إن عبارة {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} تشير إلى كون الإنسان مخلوق مُخير، مُيز بأنه بالاستماع يدرك الوقائع، وبالبصيرة يُبصر الحقائق، وهذه النعم توجب حصول حركة على المستوى الحياتي.
الأصناف الثلاثة من الناس
ومن هنا انقسم الناس تجاه هذه التذكرة إلى صنفين كما في قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(٣)}، هما:
الصنف الأول: هم المتذكرون الذين عَرفتهم السورة بالشاكرين لأنعم الله تعالى، الذين لم يغفلوا أنهم وما يملكون لخالقهم، وهم الكُمل من خلق الله تعالى وقد وصف جزائهم الأخروي، وقد فصلت السورة في سماتهم فهم ممن وصفهم تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا(٧)}؛ فلم يبخلوا بالعطاء ولم يطلبوا من مخلوق جزاء، كما في قولهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا(٩)}، ولم يجزعوا في شدة ولم يطغوا في رخاء، كما في قوله: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}، فهم ممن شملهم ربهم وأدخلهم برحمته، بقوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِۚ(٣٠)}، ولأنهم كانوا من أهل الشكر جزاهم ربهم شكرًا، قال تعالى: {إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا(٢٥)}.
أما الصنف الثاني: فهو الإنسان الكافر الجاحد لأنعم الله تعالى عليه، الذي لم يسخرها لأصل وغاية وجوده، قال تعالى: {إِنَّ هَٰؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا(٢٧)}، فهم ممن ظلموا أنفسهم، ووضعوها بغير موضعها فاستحقوا العذاب، كما في قوله تعالى: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(٣٠)}، إذ كان مصيرهم سوء العاقبة، كما بقوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا(٤)}.
أما الصنف الثالث فلعله في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً، وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً، إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٣- ٢٥)}، إشارة إليه، وهو الصنف الذي سيكون مع عباد الله الأبرار.
فالخطاب الإلهي وإن كان ظاهره موجه للرسول، إلا إنه موجه لكل إنسان لازال يحمل فطرة سليمة كي لا يكون مع صنف الكافرين، وهذا ما يمكن أن نفهمه من قوله: {إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلا} الذي أتى بعدها، فالمخاطب هنا ممن هم ليسوا من الصنف الثاني الكافر، فالصبر وطاعة الله تعالى وأوليائه وذكر الله تعالى التنفل وعمل المستحب من موجبات ترقي النفس الانسانية والثبات على ما فطرت عليها، ومن علامات من لا يحب العاجلة ويذر الآجلة.
التفاتة ولائية
في قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا(٦)}، قالت الآية[بها] وليس [منها] إشارة لخاصية ومنزلة قرب اختص بها هؤلاء الذين عبرت عنهم الآية [عباد الله]، وهم المقربون، وفي قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}(المطففين: ٢٨) ما يشير إلى هذا المعنى، إذ نلحظ الآية أن وصفتهم بنفس الوصف.
لذا فهي -أي العين- خُصت بالايجاد والخلق [لهم] فكانوا هم الواسطة لتكون هذه العيون عيونا، فهم لا يشربون منها فقط، بل يفجرون منها عيونا لمن هم معهم من الأبرار كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا(٥)}، فعن أمير المؤمنین (علیه السلام) عن جابر، عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام)، قال: " ... نَشَدْتُکُمْ بِاللَّـهِ هَلْ فِیکُمْ أَحَدٌ أَنْزَلَ اللَّـهُ فِیهِ وَفِی وُلْدِهِ [إِنَّ الْأَبْرارَ یَشْرَبُونَ مِنْ کَأْسٍ کانَ مِزاجُها کافُوراً...] إلى آخر السورة، غَیْرِی قَالُوا: لا"(٢)، أي هم ممن خصهم تعالى بولايته، واصطفاهم على بريته، فهم الذين بَلغوا أعلى درجات البر، كما جاء في الزيارة الجامعة بوصفهم بأنهم [عناصر الأبرار]، وهم يسقون من حاز على مقام البر أيضًا.
التفاتة ورسالة
ومن الجدير بالالتفات إنه عادة تأتي عبارات مثلا (ضعيفًا - كنودًا - كفورًا- عجولًا- قتورًا- أكثر شيء جدلًا… وغيرها) مع ذكر لفظة الإنسان في غيرها من السور، بخلاف هذه السورة فما فيها من سمات النفس الإنسانية مادحة لا ذامة، ومن الملفت أيضًا أن ذكر الجنان والنعيم الأخروي أتى بشكل تفصيلي وليس إجمالي أو عام بالقياس إلى ذكر العذاب.
ولعل في ذلك إشارة إلى أن في هذه السورة تعالى يبين لنا صفات وسمات النفس الإنسانية التي وصلت إلى كمالها الإنساني وثمرة ما بلغت من الكمال، بينما في تلك السور وردت لتعريفنا بمواطن الضعف الذي فينا كبشر لنوصلها إلى جوهر وجودها وتكاملها كلاً بقدر مجاهدته وهمته للاقتراب من نفوس هؤلاء العباد الأبرار المقربين الذين وردت سماتهم في هذه السورة.
اضافةتعليق
التعليقات