اللحية امتداد ابيض يملأ وجهه الشاحب، واصفرار حزين تظهره شفتيه، بينما تشارك تلك اللوحة شمس الظهيرة الحارقة لتقبل جبهته على مفارق الطرق، مع حركة جسده النحيل وثيابه الرثة كان يجلس ورجلاه على بلاط الرصيف والحصى تملأ مقدمة حذائه المتعب،بينما عيناه السوداء المخملية تشعان بريقا لا افقه معناه والالم يعتصر من بين الضلوع،كان كقصيدة حزينة ولوحة ثمينة، كان عنوانا جيدا لإثارة الجدل حول الاوضاع المتردية ولكن حصة الرسام كانت هي حصة الاسد، رسمه بإتقان وباع تلك اللوحة بثمن باهظ،الناس اشتروا اللوحة لكن كان نصف ثمن هذه اللوحة كافيا ليعيدوا الحياة لذلك الرجل!.
اُهنئك يا ابليس واصفق لك، حقا انت الان استحوذت العقول ونشرت اللامبالاة، البشر بدأوا يحزنون للصور ولايأبهون لأصحابها!.
ثم كانت تلك اللوحة بمثابة إلهام للمصور، تجول في الطرقات، لم يبصر ذاك المسن لكنه ابصر عجوزا تجلس على حافة الطريق وانهار الدموع تحارب الشمس وتتسلل مابين تعابير وجهها الذي بات يظهر الشرايين وتفاصيل ذبول عينيها يقطع القلب بينما يداها ترتجفان وتفوح من بين ثنايا وجهها حكايات خيبة اشبه بإحتراق وكأن قلبها ينتظر النعش..
كان منظرا يأسر القلوب ليدخله الى عالم الحزن العميق، اتجه المصور يمينا وشمالا حتى استطاع التقاط صورة بدرجة عالية ودقة لامثيل لها لكن لم يبصر ان احد من المارة انتبه لها او انه تعاطف لحالها، ربما لكثرة المتسولين بدأنا لانميز بين الحقيقة والتمثيل، تقدم نحوها،احنت رأسها وشهقت بعمق ثم توسدت الطريق لتلقي اخر انفاسها، كانت لحظة مؤلمة على المصور وبعد ساعات انتشرت تلك الصورة ودونت عليها كثير من المقالات وكان لمواقع التواصل الحظ الاوفر، الجميع اطلق شعار احزنني في اول يومين..
ولكن عندما مرت عدة ايام وانتشرت الصورة بشكل رهيب لم يعد احد يهتم، اصبح امرا عاديا وصورة مكررة كصورة الانفجارات وخبر الوفاة، انضمت تلك الصورة لروتين العراق اليومي، وبات العقوق شيئا عاديا، اصبح دار المسننين كالتجاعيد كلما اردنا ان نخفف منها وجدناها تنتشر اكثر من ذي قبل، والشوارع بدأت تغص بالمسنين الموجودين بيناسباب العقوق والوحدة..
كلما قلنا سلاما ياعراق وجدناه يقول سلام لكم انتم، سلام على موت الرحمة، وسلام على من يقرأون كتاب الله ولايطبقون ابسط ما فيه (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) (23).
عقوق الابناء للوالدين ظاهرة ليست جديدة بل هي قديمة وقد حذر منها القرآن الكريم ونددت بها السنة النبوية، وكم من المآسي التي ينفطر لها القلب جراء عقوق بعض الابناء لآباءهم وأمهاتهم حتى وصل الامر إلى الاعتداء بالضرب وإلى القتل والعياذ بالله او رميهم في الطرقات، والبعض ممن اهتزت ضمائرهم اخذوهم الى دار العجزة، من ربى وتعب وسهر واعطى اغلى ما يملك، من وهب الحياة وتنازل عن حقوقه، اليوم بلا حياء يضعونه على ابواب دار العجزة او يتركون الرصيف يحتضنهم، بأي حق تسلب الحياة لمن اعطاك الحياة!.
اليوم نبحث عن الحرية لأبنائنا ونسلب حياة ابائنا، ما بال الزمن اصبح يسير بالمقلوب، اين حقوق الابوين؟! نحن نطالب بوطن وبأيدينا نقتل الوطن، يا بنو ادم الوطن هو العائلة، إعلم لو ذهبت الى بلاد العالم كلها وتجنست بجناسيهم وسكنت افضل المساكن لن تجد كحجرامك ولاسندا كوالدك، عد لرشدك، أمَر الله تعالى عباده بالإحسان إلى الوالدين بعد الحثِّ على التمسُّك بتوحيده؛ فإن الوالدينِ هما سبب وجود الإنسان، ولهما عليه غاية الإحسان؛ فالوالد بالإنفاق، والوالدة بالإشفاق.
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)، العنكبوت: 8.
اضافةتعليق
التعليقات