برزت أكمام الشمس من خلف عباءة الليل التي بدأت تخلع نفسها على دار أمل الجديد حيث وقفت في باحة الدار وتنفست تلك النسمات الأولى وهي تستنشق عبير الحياة على الطريقة التي كانت تتمناها، مر الوقت وباتت باحة الدار تزداد ثراءً وبهاءً وجوف أمل يزداد غطرسة وتصنع بما لا يشبهها، كان تقتبس جارتها وتقف على هيئتها وكأنها انتزعت غطاء رأسها من أسابيع سكنها الأولى وارتدت السندانة المعلقة على حائط الجارة التي تسكن الحي الثري.
كانت مجرد صدفة أن انتقلت إلى هناك ولكنها لم تكن صدفة أبدا حين اقتبست جارتها بل كانت قناعة جوفاء لا تحمل أي معنى، ظنت امل انه اتكيت تمتلكه الطبقة المخملية وبمجرد ان تضع المخمل على كتفها ستتشبه بهم، فأقامت حفلة فاخرة واجتمعن كل النسوة، ارتدت اغلى الثياب وسطرت جميع الخواتم في اصابعها لتري نساء الحي انها منهن، ذلك اليوم خلعت جلدها ووقفت في منتصف الحفلة وصدمت بأن جميعهن ذات جلدة واحدة بل هن لاينظرن الى سعر القماش الموجود بقدر مانظرن الى عقلها الذي كان فارغا.
مرت الدقائق بثقل كبير وتشنج فمها من تلك الابتسامة الزائفة حتى بدت عقارب الساعة في الدقائق الأخيرة وكأنها لا تتحرك، وما إن ذهب الجميع جلست امل في الزاوية وبسطت يديها تبحث عن الخطوط القديمة ولكنها وجدت يديها تتحرك بايماءات لا تعرفها، فزعت واسرعت نحو المرآة نظرت بخوف وصدمت بأنها رأت جارتها بدلاً من نفسها كان هروباً غير اضطرارياً .
انتبه فالاقتباس لا يليق بالجميع
مازلت اذكر كيف انبهرت بوجه فتاة مرت بجانبي وهي ترتدي الحجاب الابيض كان يظهر وجهها وكأنه البدر في تمامه، ذلك اليوم عدت الى الدار وانا اتخيل نفسي بالابيض لدرجة انني لم استطع النوم حتى هممت بالبحث على ذلك اللون الذي اذكر انني كنت اكرهه لاجبارنا على ارتدائه في مراحل الدراسة المتوسطة، وضعت الحجاب وانبهرت بجماله ولكن بعد لحظات انتبهت انني ارى وجهها في مرآتي وليس وجهي، ركزت قليلا وادركت انه لم يكن يلائم لون بشرتي الحنطية وهذه هي الحقيقة التي كان يجب ان اقتنع بها عند رؤيتي لتلك الفتاة، فجميعنا يتمنى ان يظهر بأبهى صورة ولكن ليس جميعنا يمكن ان يليق به الشيء ذاته، وهذا ماجعلني انظر بشكل اوسع حولي اليوم لاجد انخراط الكثير من حولي في تقمص شخصيات لا تشبههم وقد لفتني موقف زميلتي بأنها تقتني الكتب الكثيرة ليس لقراءتها بل كي يقال أنها مثقفة ومُطلعة وتجد محتوى للنشر فهي تستخدم الكتب لتصور القهوة وقت المساء رغم انها لا تحبها أي أنها تنتظر إعجاب وثناء الآخر على عدد الكتب العائمة في منشوراتها، أيضاً هناك متقمصون محترفون يقومون باختلاق الوداعة فيما يوقعون بعض الأفراد في تشابكات ومعاضل عن طريق تزويق النفاق بينهم وتعددت اشكال التقمص الى صور غير محمودة.
وفي هذا السياق يقول مؤسس مدرسة التحليل النفسي (فرويد) حيث اثار مفهوم التقمص لأول مرة في علم النفس في عام 1897، وربطه بالأمور التي تتعلق بمرض أو وفاة الوالدين، والاستجابة لمعاقبة النفس بصورة هستيرية، واعتبره ليس سوى نمط من التفكير يعبر عن أنانية في الحصول على كل السمات والصفات الإيجابية الخاصة بالآخرين، ويحدث هذا التقمص بسبب تأثر الشخص وانبهاره بشخصية محددة فيجاري أساليب الشخصية المستهدفة ويُحاكي تصرفاتها مُتصنعاً، حتى تترسخ في نفسه ودون ادراك منه يُلغي ويُهشم الذات الطبيعية لشخصيته بقدر ما رسخ بها من أفكار مُخالفة مُتوهما أن فعلاً كهذاً يخلق له كيانا واحتراماً وشخصية في وسط محيطه (الأسرة أو المجتمع).
لذلك يتوهم القوة عند محاكاة أفعال وشخصيات الغير التي تتشكل في عدة صور منها أسلوب الحديث والحوار، نبرة الصوت والإيماءات، طريقه اللبس أيضاً ينطلي على ذلك تقمص الشعور الدرامي المبالغ فيه احياناً، فالشخص الذي يقوم باللجوء إلى هذه الوسيلة ليجذب اهتمام الأفراد الآخرين يكون شخصاً فارغاً من تقدير ذاته، فاقداً هويته، ركيك المبادئ وانعدام قناعته بنفسه وبما يملك مما يُسهل تلاطمه في دوامة من الادعاءات وبحر من الزيف، وكل ذلك يؤدي إلى انصهار شخصيته، فالمتقمص ليس سوى مسخ منخرط في الأحلام الغبية والعقل الذي عنده بمثابة كهف لا نور فيه ولكثرة غباء من يقتبس شخصية غيره يتناسى أن الله خلق الإنسان وأكرمه وأحسن خلقه وميزه عن سائر المخلوقات فجعل منه الذكر والأنثى، الأبيض والأسود، الطويل والقصير، الاجتماعي والانطوائي ومضادات كثيرة، وأكرمه إكراماً عظيما حيث أعطاه العقل الذي يستطيع من خلاله التفريق بين ماهو سلبي وجيد كي يتعايش على هذا الكون على ما يرضي جلال وجهه الكريم.
وهنا على الإنسان أن يدرك أن ارتدائه لحذاء أنيق شيء لطيف ولكن لو كان هذا الحذاء ضيقاً سيؤذيه مع الوقت وتدريجيا ستبدأ قدمه برفضه وكلما أصر على السير دون خلعه سيفقد قدمه مما يجعله عاجزا طوال حياته، لذلك لا ترتدي مقاس لا يمت لشخصيتك بصلة وإلا ستفقده وقدمك معاً ولن يكون لمظهرك أي فائدة بعدها.
اضافةتعليق
التعليقات