قال الإمام علي بن أبي طالب "عليه السلام": "إنَّما سميَ الصديق صديقاً لأنَّه يصدقك في نفسك ومعايبك؛ فمن فعل ذلك فاستنم إليه فإنه الصديق"، يحتفل العالم يوم 30 يوليو/تموز من كل عام باليوم العالميّ للصّداقة، الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2011، واضعةً في اعتبارها أن الصّداقة بين الشُّعُوب والبُلدان والثقافات والأفراد يمكن أن تصبح عاملاً ملهماً لجهود السلام، وتشكل فرصةً لبناء الجسور بين المُجتمعات، ومُواجهة وتحدّى أي صور نمطيّة مغلُوطة والمُحافظة على الروابط الإنسانِيّة، واِحترام التنوُّع الثقافيّ.
للصداقة التزامات وأحكام وتحفظات قد يغفل عنها الكثير فيطلقونها على من يعرفونه من خلال علاقاتهم الاجتماعية أو على زمالات العمل أو الدراسة أو مراحل الحياة الأخرى التي يمر بها الإنسان عبر مسيرة حياته الطويلة، والصداقة لفظة مشتقة من الصدق والود والنصح كما يفهم ذلك من معنى كلمة الصدق في اللغة، وقد فسرت الصداقة بالمحبة وهي لازمة لها بمعنى أن الصديق لابد من أن يتصف بالمحبة لصديقه وإلا لا معنى لوصفه بالصديق تلك الصفة التي يحبها الله ويأمر بالتزامها قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)(التوبة: 119).
إن العلاقات الاجتماعية بين أبناء المجتمع الواحد أمرٌ لا غنىً عنه فهو جزء من فطرة الإنسان السَّوية؛ فالإنسان مخلوقٌ اجتماعيٌّ بطبعه لا يستطيع العَيش وحده دون عائلةٍ وزملاءَ وأصدقاء فالصداقة تشكل ثُلث العلاقات الاجتماعية في حياة الإنسان؛ فيومه ثلث للعمل وزملاء العمل، وثلث للأسرة والبيت والعائلة، وثلث للأصدقاء والرفقاء فهي جزءٌ أساسيٌّ واختياريٌّ في حياة كل فردً؛ فلا أحد يُجبر على اختيار صديقٍ معينٍ أبداً.
صفات الصديق
عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ ــ فقال فيما قال عليه السلام ــ: "... وَإِذَا نَازَعَتْكَ إِلَى صُحْبَةِ الرِّجَالِ حَاجَةٌ فَاصْحَبْ مَنْ إِذَا صَحِبْتَهُ زَانَكَ، وَإِذَا خَدَمْتَهُ صَانَكَ، وَإِذَا أَرَدْتَ مِنْهُ مَعُونَةً أَعَانَكَ، وَإِنْ قُلْتَ صَدَّقَ قَوْلَكَ، وَإِنْ صُلْتَ شَدَّ صَوْلَكَ، وَإِنْ مَدَدْتَ يَدَكَ بِفَضْلٍ مَدَّهَا، وَإِنْ بَدَتْ عَنْكَ ثُلْمَةٌ سَدَّهَا، وَإِنْ رَأَى مِنْكَ حَسَنَةً عَدَّهَا، وَإِنْ سَأَلْتَهُ أَعْطَاكَ، وَإِنْ سَكَتَّ عَنْهُ ابْتَدَأَكَ، وَإِنْ نَزَلَتْ إِحْدَى الْمُلِمَّاتِ بِهِ سَاءَكَ، مَنْ لَا تَأْتِيكَ مِنْهُ الْبَوَائِقُ، وَلَا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ مِنْهُ الطَّرَائِقُ، وَلَا يَخْذُلُكَ عِنْدَ الْحَقَائِقِ، وَإِنْ تَنَازَعْتُمَا مُنْقَسِماً آثَرَكَ...".
لا شك أن خصلة الصدق مصدر كل خير وبر وعطاء وهي خصلة الأنبياء والصالحين من عباد الله، فبهذا المعنى ليس من الإنصاف أن نجري صفة الصديق على كل شخص ونطلقها على كل صاحب فمفهومها رفيع دونه بكثير ما يقوم على المصالح والأطماع واستنزاف المنافع من الآخر وهي ليست كما هو مُتعارف في كثرة وجودها صفة لا تدل على الموصوف مبتذلة فارغة من قيمتها.
لذا نفهم أن هناك التزامات وشروطا يجب أن يتحلى بها الموصوف بالصداقة، فيرشدنا إمامنا إمام الصدق والفضيلة إلى أهم الشروط التي يفترض تواجدها في المرء كي يستحق هذه الصفة الكريمة فيقول (عليه السلام): لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته، وغيبته، ووفاته.
ففي الشدائد يعرف المرء صاحبه وعندها يميز الإنسان خليله ويعرف حبيبه فكم من الناس سقطوا عند أول اختبار وكم منهم بقوا على العهد، نعم هي الأيام وتقلباتها تكشف حقائق وبواطن الناس.
يقول الشاعر (إنَ أخاكَ الحقَ من كان معك ومن يضر نفسَه لِينفعَك)، يعرف المرء صاحبه في ما يمر عليه من نوائب فيعينه فيها ويحل بعض مشاكله ويخفف من وطئتها عليه ما استطاع ويساعده في تجاوزها، فلا يتخلى عنه في ضيقه وهو ينتظر عونه ولا يتركه لوحده يعاني ما عنده وهو ينتظر رفده، ولا يتشمت به فوقع الشماتة على صاحبه المبتلى أشد من بلائه، ولا يتنصل من الصداقة والمعرفة الشخصية فإن ذلك من علامات ضعف الشخصية واهتزاز البناء الداخلي للذات ولولا ذلك لقاوم وتحمل إزاء صاحبه ومن كان يعده صديقه.
يُعرف الصديق عند النكبة وحلول المصيبة التي فيها يحتاج الإنسان لمن يسليه ويواسيه وينسيه ماحلّ به ليقاوم ويواجه بصلابة من دون أيّ انهيار نفسي أو جسدي، لأن ذلك من موارد الامتحان والشهامة وما من أحد إلا وله أعداء ومبغضون يتربصون به ويتمنون وقوعه في محنة ومعاناة ليأخذوا دورهم المناسب في القيل والقال وإشاعة الخبر وترويج الأخبار الكاذبة المغرضة كإحدى وسائل الحرب النفسية والإعلامية المضادة لإضعاف الطرف الآخر فيأتي دور الصديق المؤازر لأخيه في كل مواقفه.
للصداقة والأخوة الحقيقية منزلة عظيمة، وهذا ما نلمسه واضحاً في أحاديث وأقوال أهل بيت النبوة(عليهم أفضل الصلاة والسلام)، أي أن الصديق يستغيث بصديقه من نار جهنم قبل أن يستغيث بأهله، إذ روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنَّه قال: "لقد عظمت منزلة الصديق حتى ان أهل النار يستغيثون به ويدعون في النار قبل القريب الحميم".
ومن فوائد الصداقة الحقيقية الأخوة بالله تعالى أنه روي عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه وعلى آبائه أفضل الصلاة والسلام)، أنه قال: "من استفاد أخاً في الله استفاد بيتاً في الجنة".
حدود الأخوة والصداقة
يجب أن تكون هنالك حدود من الافضل توافرها في الصداقة والأخوة، فإذا كانت هذه الحدود موجودة أصبح واجباً علينا أن نطلق على هذا النوع من الصداقة بالصداقة الحقيقية، وهذه الحدود بينها لنا الإمام جعفر بن محمد الصادق(صلوات الله تعالى عليه)، إذ أنه قال: "لا تكون الصداقة إلا بحدودها فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منها فانسبه إلى الصداقة ومن لم يكن فيه شيء منها فلا تنسبه إلى شيء من الصداقة فأولها: أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة، والثانية أن يرى زينك زينه وشينك شينه، والثالثة أن لا تغيره عليك ولاية ولا مال، والرابعة أن لا يمنعك شيئا تناله مقدرته، والخامسة وهي تجمع هذه الخصال أن لا يسلمك عند النكبات".
الصداقة عند ال البيت حبيب بن مظاهر الأسدي مثلا اسمه و كنيته هو حبيب بن مُظهر، أو مظاهر بن رئاب الأسديّ الكنديّ، ثمّ الفقعسيّ ويكنّى أبا القاسم، ويقال له سيّد القرّاء كان ذو جمال و كمال، وفي وقعة كربلاء كان عمره (75) سنة،
وكان يحفظ القرآن الكريم كلّه، وكان يختمه في كلّ ليلة من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر.
روى صاحب كتاب (مجالس المؤمنين): إنّه تشرّف بخدمة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم،
وسمع منه أحاديث، وكان معزّزاً مكرّماً بملازمة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام وقال صاحب (مجالس المؤمنين): حبيب بن مظاهر الأسدي محسوب من أكابر التابعين.
من مواقفه المشرّفة (رض)
قال أهل السير: جعل حبيب ومسلم ابن عوسجة يأخذان البيعة للحسين (ع) في الكوفة، حتّى إذا دخلها عبيد الله بن زياد وخذّل أهلها عن مسلم بن عقيل، وتفرّق أنصاره؛ حبسهما عشائرهما وأخفياهما، فلمّا ورد الحسين (ع) كربلاء خرجا إليه مختفيين يسيران الليل ويكمنان النهار حتّى وصلا إليه.
وروى الطبري: …ثمّ دعا عمر بن سعد قرّة بن قيس الحنظليّ فقال له: ويحك يا قرّة، إلقِ حسيناً فسله ما جاء به، وماذا يريد؟ قال: فأتاه قرّة بن قبس، فلمّا رآه الحسين مقبلاً، قال: "أتعرفون هذا"؟ فقال حبيب بن مظاهر: نعم، هذا رجل من بني حنظلة، تميميّ، وهو ابن أختنا، ولقد كنت أعرفه بحسن الرأي، وما كنت أراه يشهد هذا المشهد قال: فجاء حتّى سلّم على الحسين (ع) وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه، فقال الحسين (ع): "كتب إليّ أهل مصركم هذا، أن أقدم، فأمّا إذا كرهوني فأنا أنصرف عنهم"، قال: ثمّ قال حبيب بن مظاهر: ويحك يا قرّة بن قيس! إنّما ترجع إلى القوم الظالمين، اُنصر هذا الرجل الذي بآبائه أيّدك الله بالكرامة و إيّانا معك فقال له قرّة: أرجع إلى صاحبي بجواب رسالته و أرى رأيي.
شهادته في وقعة الطفّ الرهيبة
لمّا أصبح الإمام الحسين عليه السلام يوم العاشر من المحرّم الحرام سنة 61 هـ ، فعبّأ أصحابه بعد صلاة الغداة، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه، وأعطى رايته العبّاس أخاه (ع).
ولمّا رمى عمر بن سعد بسهم نحو الحسين، ارتمى الناس وبدأ القتال، وحينما صُرع مسلم بن عوسجة الأسديّ، مشى إليه الحسين (ع) و حبيب بن مظاهر الأسديّ، فدنا منه حبيب فقال: عزّ عليّ مصرعك يا مسلم، أبشر بالجنّة. فقال له مسلم قولاً ضعيفاً: بشّرك الله بخير فقال له حبيب: لولا أنّي أعلم أنّي في أثرك، لاحق بك من ساعتي هذه؛ لأحببتُ أن توصيني بكلّ همّك حتّى أحفظك في كلّ ذلك قال: بل أنا أوصيك بهذا رحمك الله ـ و أهوى بيده إلى الحسين أن تموت دونه قال: أفعل وربّ الكعبة.
وقاتل حبيب قتالاً شديداً، فحمل عليه بديل بن صريم العقفانيّ من بني عقفان من خزاعه، فضربه حبيب بالسيف فقتله وحمل عليه آبر من بني تميم فطعنه فوقع (حبيب)، فذهب ليقوم فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فوقع و نزل إليه التميميّ (آبر) فاحتزّ رأسه.
هذا هو أحد الصناديد الذين نصروا الحسين صلوات الله وسلامه عليه، فضحّى من أجله، إذ الجور مدّ باعه، وأسفر الظلم قناعه، ودعا الغيّ أتباعه؛ فاستقبل بوجهه النيّر ظلمات الدنيا،
وصدّ بصدره الحديديّ وإيمانه الراسخ رماح الكفر والجبروت، فرخصت أمامه الأموال والدنيا
وحبّ الشهوات، ورأى الانتقال إلى ربّ العالمين خيراً من مجاورة الكافرين، فكافح الفاسقين بنفس لا تخيّم لدى الناس وبيد لاتلين عند المراس، فرحمك الله يا حبيب، وجعلك حبيباً للحسين عليه السلام وآل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن الفائزين بجنّة الخلد والرضوان.
في نهاية الموضوع اقول ليتنا نحصل في حياتنا هذه على شخص واحد مثل حبيب بن مظاهر هذا الفارس الشجاع الذي نفتقد امثاله في هذا الوقت فما اعظمك يا علي وما اعظم من تصاحب فما ورثت لال بيتك الا خيرا وما تركت لهم إلا نعم الاصحاب وليت يوم الصداقة كان قد دون منذ يوم الطف لكان سجل اعظم الاسماء في سجل الاصدقاء.
اضافةتعليق
التعليقات
العراق2018-08-10