ياجواد الأئمة أدركني.. نداء الضمير واعترافه بضعفه عند المحن، لتتدخل يد العصمة وتجود من أرزاقها، فيضا شافيا لمن نادى وطلب الغوث .
الامام الجواد (سلام الله عليه) وعاء لكل إجابة، وسر من أسرار التواصل بين العبد وربه، حتى يستدرك العمق معنى الولاء، ومكتوب القدر، وأن المحنة عثرة استبصار لقلب كل من عرف إمام زمانه، وسجدت معاصمه حبا وشرفا لهم أهل البيت .
في محطات الانعطاف، تستفيق الأمة على مرحلة هي الأكثر تطورا وأبهى حلة من التي سبقتها، لأن الوقت والظرف يمنع صرفا، وتكون أولوياته منسجمة الفكرة مع واقع الحال .. فتنشأ معها شبيبة تؤمن وبصلابة لمعايشة الفكرة واقعيتها ويلبس القلب صحوته فتتبرمج لها شيفرة منسجمة مع ما تؤمن وتعاصر ..
فتستعين حينها بالإدراك لتفهم معنى الطريق وردهات أفكاره، لتعتصم بحبل هو الأجدر والأفضل والأقوى متناً وفحوى وتصديقا بآيات الله وفيوضات أحكامه..
أدركني، تعني الملاذ، وقوة الفصل، وأن الأرض ومن عليها تستعين بالإمام الهمام جواد أهل البيت (عليه السلام) وكل الكون بتحدياته للسجود له وإلى من هو أهل لفك رموز وطلاسم، وأعانه النفس وما تتنفس للخلاص من بعثرة الفوضى والضجيج الذي انتابها لتصل إلى أمان الظل الوارف وعبق الذات الشاهق، ولكي تلمس الجفون موق الدمع حبا، لابد أن ترمش كل المفاصل واستشعار الركعة من الصلاة، وجود هذا القادر على حل ما يستوجب حله وأي معظلة كانت .
وجود هذا الوتر في المحاكاة والاستصراخ، مائزة تخثرت بمصل العقيدة، واعترفت لها كتب السماء وكل الملائكة ..
وكذلك الأنبياء.. حتى تشبعت التربة الناعمة من نوادر أفكارهم وأنوارهم.. وكشفت لشارع الجهاد وسائل تلبي حاجة العليل، وتغذي إبهامه لبنا بطعم الإمامة وقدسيتها.
عن عبد الله بن الصلت أبو طالب القمي قال: كتبت إلى أبي جعفر ابن الرضا يأذن لي أن أندب أبا الحسن ـ أعني أباه ـ فقال: فكتب إليّ "اندبني واندب أبي".
يلتمس البشر الشفاء عند حلول البأس وتغادر أفئدتهم ضجرا لعدم إدراك الفتح، فتطير هممهم ويلفها التشاؤم وتستغيث ويدهم بيد القشة لتنقذ الهواء من قلة الحيلة وضيق القدر، فأول من يلهج لسانهم به أن أدركني أيها الجواد .. عبارة وكأنها تهز الكون بشمولية المعنى فيها، في أن الإدراك ملازم الجود ولا بديل له لتستتب اليقظه ويحل اليقين، ويسافر الوجوم إلى حيث لا رجعة .
علي بن مهزيار، من ألمع أصحاب الإمام الجواد (عليه السلام)، ومن مشاهير علماء عصره فضلاً وتقوى واخلاص..
ولم ير مثل علي بن مهزيار في طاعته وتقواه، وبلغ من عبادته أنه إذا طلعت الشمس سجد لله فلا يرفع رأسه من السجود حتى يدعو لألف رجل من إخوانه بمثل ما دعا لنفسه، بعث الإمام الجواد (عليه السلام) إلى علي بن مهزيار عدة رسائل تكشف عن شدة صلته بالإمام (عليه السلام) وسموّ منزلته ومكانته عنده، ومن بين هذه الرسائل :
"قد وصل إليّ كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وقد ملأتني سروراً، فسرّك الله، وأنا أرجو من الكافي الدافع أن يكفيك كيد كل كائد إن شاء الله تعالى".
ودلت هذه الرسالة على قيام علي بن مهزيار بخدمة الإمام (عليه السلام) وقد ملأت قلبه الشريف فرحاً فراح يدعو له بأن يجزل له الله تعالى الأجر والثواب .
وكتب علي بن مهزيار إلى الإمام (عليه السلام) يطلب منه الدعاء له فأجابه (عليه السلام): "وأما ما سألت من الدعاء فإنك بعد لست تدري كيف جعلك الله عندي وربما سمّيتك باسمك ونسبك، مع كثرة عنايتي بك ومحبتي لك ومعرفتي بما أنت عليه فأدام الله لك أفضل ما رزقك من ذلك ورضي عنك، وبلغك أفضل نيتك، وأنزلك الفردوس الأعلى برحمته أنه سميع الدعاء، حفظك الله وتولاك، ودفع عنك السوء برحمته".
أن التوفيق لعباد الله، حلة ثمينة يهبها الله تعالى لمن آمن وتولى أولياءه، ولبس أسرار الغيب بإذنه، وأنه لشرف عظيم أن يدركه إمام زمانه بأحسن دعاءه وجمال أنفاسه، وإن يكون في أم دعاءه واستغاثته وخصوص ذكره، هنا الإدراك قد جمع الاسم وهيبته، ومعنى اللطف وزينته، من فم الرسالة وذات الغيب كرما وجودا وسخاء لا يناله منا إلا ذو حظ عظيم .
إنها الحكمة أيها السادة، أن خصت الجملة بالإمام الجواد الأئمة، واقتضت للنجاة شخص العصمة لأنه هو الأوحد في زمانه لدرك شرارة الحياة وتعويضها بالطيب والعطر والشذى .
فليس كل من أدرك غيره، أنه وسعه في كل ما يجوب في خاطره، عندئذ تبقى المخاطرة هنا في محل الارتباك، لأن أصل الفكرة قد تم تداركها ..
فقول أدركني، أي احتويني وأشملني بجودك وكرمك على ما بدر مني من ذنب وتقصير وسهو حتى يليه الاستدراج والاستدراك للأمر وتحقيق ما نقصده ورفع الشبهة وجملة الأوهام من النفس والبصيرة .
لنجبر القلم اليوم أن يدرك معنى أن يتوسل حبره قبل نفاذه بإيضاح الحقيقة، وليكثر من دعاءه وليطلب المزيد من الذاكرة حتى تبتل معاقل الحروف من صوابهم وأفعالهم ونهل المزيد من أنوار قدسهم.. ولتدرك النفوس نواقصها وتسديد فواتير ضعفها بطلب السند والمعين من إمامها الجواد وليكن الطموح أوسع وأعمق في أن يكون استدراج لطلب العافية من أي شائبة فكرية وعقدية وحقوقية، بل طلب الشفاعة والتي هي الأعمق نظرا لتتسع لنا دائرة الإجابة وتحقيق المراد .
اضافةتعليق
التعليقات