يشدُ يد والده بكل قوته غارساً أصابعه الناعمة على ظهر يد أبيه، وقد بدأت علامات الإمتعاض تخطُ مسيرها على وجنتيه المُترفة، مُقطب الحاجبين وكأنه يبذلُ جهداً إستثناياً ليظهر بكامل غضبه !من فعل هذا بالشجرة؟ من أصاب جذعها؟
صَمَّتَ الوالد قليلاً مع ملامح إبتسامةٍ خفيةٍ ترفعُ أشرعتها على مُحياه قائلاً !
الحشرة.. الحشرة ياولدي هي المُتهمة بهذا الصنيع؟
أيُّ حشرة تقصد؟
حشرة الشجرة نفسها هي من فعلت!
توسع بؤبؤ عينيه الصغيرتين، وأعلن جسمه مقاطعته الحركة في محاولةٍ منه لإستيعاب ما قاله والده؟
فهذا الصغير بسنيَّ عمره الصغيرة ما زال لا يفقه عالم الُمتناقضات وكيف تحكم مُجريات حياتنا؟
فأنى له أن يُصدق أن الخراب الذي عاث بالشجرة ليس له إلا مصدراً واحداً لا سواه؟ وكيف له أن يعي أن العدو الذي أوسع جذع النخلة مرضاً قد جاء من داخلها؟!
الحياة بـفصولها التي تتعاقب على بني البشر ماهي إلا خليط من تلك المُتناقضات، يبذلُ الإنسان فيها جهداً حثيثاً لكيلا يُصاب بـالأذى! يعيشها محاولاً تجنب الطرقُ التي يحسبُ إنها سوف تُؤذيه، يُمارس الحذر، القلق والكثير من سطوة الخوف لكيلا يطأ مدينة الوجع لكنه يبقى غافلاً عن أعتى أعداءه، مُستهيناً به، بل قد يغلبُ عليه الحب لذلك العدو فيتركه يفعل به ما يشاء!
يقول المولى أمير المؤمنين (عليه السلام ):
دَواؤُكَ فيكَ وَما تُبصِرُ .. وَدَاؤُكَ مِنكَ وَما تَشعُرُ
أَتَزعُمُ أَنَّكَ جُرمٌ صَغير .. وَفيكَ اِنطَوى العالَمُ الأَكبَرُ.
قُضيَ الأمر، وقال المولى كلمته الفصل لتُرفع الجلسة في محكمة النفس بإنتظار التنفيذ !
النفس البشرية هي الميدان الأول الذي لابد لصاحبها أن يسجلُ إنتصاراً عزيزاً عليها ليكن مستعداً فيصرعُ بقية أعداءه وكأن الانتصار بهذا الميدان يمنح صاحبه درع التميز والشجاعة لمواجهه ما تبقى منهم !
ففي ميدان الحرب كلما كان عدوك قريباً منك، عالماً بنقاط ضعفك ومواطن القوة عندك كلما كان عليك أقدر فتكون فريسة سهلة الصيد، فليس سهلاً أن تقف ضد أصنام الحسد، الحقد، الجهل ، البغي والتكبر وغيرها من الآفات التي تعيثُ بصاحبها خراباً دون أن يدرك جحم الدمار الذي تُخلفه خلفها !
ليس سهلاً له أن يُروض أداة لسانه تلك الآفة السامة التي تقتات على حقوق الآخرين وتقفُ حائلاً بينه وبين العروج نحو طهارة الذات والتحليق بها نحو مدارج النور لتصفو فتبلغ منزلة الطمأنية التي أرادها الرب عز وجل !
ولأنه رب الألطاف ومُنزلها، وصاحب الرأفة وموجدها مازال يدلو بـدلو عطفه لعباده ليروي العُطاشى منهم ويدل التائهين في ظلمات الفانية، يتابع عليهم النعم مرة بعد أُخرى !
فخيره إليهم نازل وشرهم إليه صاعد هذه المعادلة التي تأبى الاتزان إلا بكف رحمته!
وعلى مائدة من نور في شهر فضيل تزيَّن بالقُرب منه يدعوك لتكن ضيفه! بعيداً عن شياطين الجن ومُهلكات النفس ما عليك سوى الإستعداد ولمثل هذه الضيافة فليتنافس المُتنافسون!
إذ لا يمكن لك تلبية دعوته وأنت تقفُ عاجزاً أمام أصنام الشرك والظُلمات؟
لايمكن لك من العروج وهذه الأصنام تقفُ فوقك، تحول بينك وبين شهر رمضان! لأنها ستحجب عنك هلاله وتحول بينك وبين أسحاره فلا تشعر بـلذة مناجاته وليالي قدره مغشياً عليك وتحسب نفسك أنك من الصائمين !
إنفض عنك غبار الغفلة، وتعلق بأطراف عفوه فالعفو متاح لكل ما فعلته إلا إنك تقتاتُ على حقوق الآخرين وقلوبهم!
إبدأ من النية فإنما الأعمال لا تزهر إلا إذا سُقيت بماء النية الصادقة وإنشغل بنفسك عن كل ما سواها فليس عندك أعز منها ولا أثمن! فالربح والخسارة مُعلق بأستارها !
وبادر لعلاج قلبك بالماء والدعاء !أزح عنه ما تكونت عليه من أنواع الغفلات، وماغطته من أشكال الشهوات، أنعشه قبل أن يتآكل فيتلاشى خلف الظُلمات! فأنت بضيافة عزيز جبار، يدعوك لشهر التربية والغُفران !
فأعظم الربح.. أن تربح نفسك فتخرجُ من ضيافته بغير القلب الذي جئتهُ به!.
اضافةتعليق
التعليقات