الثقلان.. القرآن والعترة اهتمّا اهتماماً بالغاً ببناء الإنسان وتطهير نفسه من الرذائل الأخلاقية، وتربيتها على الملكات الفاضلة ومكارم الأخلاق.
فالقرآن الكريم يطرح معادلة واضحة المعالم يجعل فيها فلاح الإنسان وشقائه مرتهن بتزكية النفس وبنائها الأخلاقي، {قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّاهَا}.
ولو اطّلعنا على تراث أهل البيت عليهم السلام لوجدنا منظومة كاملة لبناء الإنسان روحيا وخُلُقيا، ترتكز على الرؤية القرآنية، هذا بالإضافة لكونهم عليهم السلام التطبيق العملي الكامل والرائع لكل ما دَعَوا إليه، والأسوة الحسنة التي لا يشقى ولا يضلّ من اقتدى بها واهتدى بسنا نورها.
إن الإطار العام لمنهج أهل البيت الأخلاقي يتمثل بالتركيز على نقطة مهمة ومحورية وهي "جهاد النفس" الذي سمّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) "الجهاد الأكبر"، فالإنسان بما فُطِرَ عليه من غرائز، وبما تنطوي عليه نفسه من شهوات، وما تحيط به من مغريات، وذلك العدو اللدود الذي يتربّص به ليلا ونهارا؛ كل ذلك يجعله يعيش في صراع وجهاد مستمر مع جنود الجهل، وعليه أن يكون دائما في حالة يقظة، واستعداد كالجندي المرابط على جبهة القتال، فهي حرب لا تنتهي، ولا ترتبط بزمان أو مكان، ولا بعمر محدد.
والإمام الباقر (عليه السلام) حلقة من حلقات السلسلة النورانية الهادية، حيث واصل نهج آبائه المعصومين في البناء الفكري، والعقائدي، والأخلاقي لأتباع مدرسة أهل البيت، ومن خلال تراثه الزاخر والغني بالقيم الأخلاقية يرسم لنا الإمام المنهج العام لسلوكنا الأخلاقي لنكون جديرين بشرف الانتماء إليهم، والتسمّي باسمهم وبكوننا شيعة لهم.
إن من أهم مقومات البناء الأخلاقي التي ركّز عليها الإمام الباقر (عليه السلام) هو ضرورة شعورنا بالرقابة الإلهية، وإحساسنا العميق والدائم بأن الله يرى ويسمع، ولا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة، ويحصي كل شاردة وواردة من أعمالنا، هذا الشعور المستديم في وجداننا سيمنحنا حصانة ضد الذنوب، ودافعا لإصلاح النفس وتزكيتها.
يقول (عليه السلام) لأحد أصحابه معاتبا: (ويلك إنّما أنت لّص من لصوص الذنوب، كلما عرضت لك شهوة أو ارتكاب ذنب سارعتَ إليه وأقدمتَ بجهلك عليه، فارتكبته كأنّك لستَ بعين الله، أو كأنّ الله ليس لك بالمرصاد؟)، وتعبير اللص يعني من يعمل الأعمال بالسر .
ومع الشعور الدائم بالرقابة الإلهية يعزّز الإمام الباقر شعورنا بالآخرة، وأهمية التوجّه إلى حياتنا الباقية؛ فنحن لم نُخلق لهذه الدنيا الفانية الزائلة فلماذا نحرص عليها ونولّيها جلّ اهتمامنا؟
يقول عليه السلام: (مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القزّ كلما ازدادت على نفسها لفّاً كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غمّاً).
وعندما يكون الإنسان عارفا بالله، مراقبا إيّاه، مترّقبا ليوم آخرته فسيكون في حالة ارتباط دائم به سبحانه وتعالى، وعمل مستمر بطاعته، وسعي حثيث لنيل مرضاته، يقول الإمام الباقر في هذا الشأن: (ما عرف الله من عصاه).
ويصلنا تحذيره عبر وصيته لفضيل بأن لا نتّكل في النجاة من العذاب على انتمائنا إلى مذهب أهل البيت؛ لأن رضا الله تعالى لايُنال إلا بالتقوى والعمل الصالح: (يا فضيل بلّغ من لقيتَ من موالينا السلام وقل لهم إني أقول: إني لا أُغني عنهم من الله شيئا إلا بورع، فاحفظوا ألسنتكم، وكفوا أيديكم، وعليكم بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين).
وقد حرص إمامنا الباقر (عليه السلام) أن يكون الودّ في الله هو سمة العلاقة بيننا، وأن يكون الحب والبغض فيه، ولأجله هو أساس وطبيعة الأواصر التي تربطنا حيث يقول: (ودُّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الايمان، ألا ومَنْ أحبَّ في الله، وأبغض في الله، وأعطى في الله، ومنع في الله؛ فهو من أصفياء الله).
وكان عليه السلام يحثّنا على حسن الخلق والرفق ببعضنا فيقول: (من أُعطي الخُلُق والرفق فقد أُعطي الخير كله).
ومن وصاياه التي توثّق الروابط بيننا: (إنّ المؤمن أخو المؤمن لا يشتمه، ولا يحرمه، ولا يسيء به الظن) وقال: (ثلاثة من مكارم الدنيا والآخرة: أن تعفوَ عمّن ظلمك، وتصل من قطعك، وتحلم إذا جُهِل عليك) .
هذه نظرة خاطفة لتراث إمامنا الباقر الذي من خلاله يبني الفرد الشيعي المتكامل عقائديا، وأخلاقيا، وسلوكيا، ولو أردنا استقصاء كل ماورد عنه - وهو باقر علم الأولين والآخرين لطال بنا المقام، ولكن ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه، واللبيب يكفيه القليل من الوعظ
اضافةتعليق
التعليقات