إن الله سبحانه وتعالى بحكمته جعل بحكمته (نظام الأتم) في العالم، ففضّل بعضاً على الآخر ورفع بعضهم ووضع آخرين، وفضل بقاع كمكة وكربلاء على بقاع أخرى، وساعات في اليوم كبين الطلوعين على ساعات أخر، وشهوراً كشهر رمضان على باقي الشهور وجعل لها لوناً آخر، فأصبح من كان فيها بضيافة الله عزوجل، فنومه فیه عبادة ونفسه فيه تسبيح.
ونحن اليوم نعيش أجواء شهر رمضان من جانب وأيام استشهاد أمير المؤمنين(عليه السلام) من جانب آخر، إنها فرصة ذهبية لدمج الفضيلتان معا لننتهل من علوم أمير المؤمنين (عليه السلام) ونركز ونتدبر على ما قاله لنرتفع أكثر في الاستسقاء من فضيلة شهر رمضان.
ونحن اليوم نعيش أفضل أيام السنة كما قال تعالى: "خير من ألف شهر"، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه جعلها وسيلة لكمال الإنسان وشرع الأعمال والعبادات المختلفة لكي ترتقي بالإنسان إلى أعلى الدرجات المتوقعة منه، فعن رسول الله (صلی الله علیه وآله): "شَهْرُ رَمَضَانَ لَيْسَ كَالشُّهُورِ لِمَا تُضَاعَفُ فِيهِ مِنَ الْأُجُورِ هُوَ شَهْرُ الصِّيَامِ وشَهْرُ الْقِيَامِ وَشَهْرُ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَار."[1]
ومن بين الأعمال التي شرعت في شهر رمضان، نرى هناك عملا له لون آخر ولون أغمق بجانب سائر الأعمال وهو الإستغفار، يقول أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): "عَلَيْكُمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِكَثْرَةِ الِاسْتِغْفَارِ والدُّعَاء."[2] وأيضا روي أنه: "كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) إِذَا كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ لَمْ يَتَكَلَّمْ إِلَّا بِالدُّعَاءِ وَالتَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّكْبِير."[3] ونرى في كتاب مفاتيح الجنان الأدعية والأعمال الواردة كثيراً ما تشمل عبارات الاستغفار.
وهنا يظهر السؤال لم هذا العمل خصصهُ الله تعالى وركز أهل البيت (عليهم السلام) على ذكره في شهر رمضان؟ ما أثر الاستغفار على الإنسان بحيث جعل الله هذا العمل في أفضل شهور العام؟ وما هي الآثار المترتبة عليه؟ كيف يستطيع الإنسان أن يكسب ويصل إلى الدرجات العالية من الاستغفار؟
هذا البحث موجود في كثير من أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) ولكن وبما أننا نعيش أيام استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهذا البحث يتناول الاستغفار في كتاب نهج البلاغة لأمير المؤمنين (عليه السلام).
وكما هو المنهج العلمي في البحث عن الروايات، نبدأ بمعنى الاستغفار لغةً واصطلاحاً:
الاستغفار هو من مادة الْغَفْرُ بمعنى إلباس ما يصونه عن الدّنس[4] وكما يقول ابن فارس الْغَفْرُ يعني الستر، وكما هو واضح ان الاستغفار يرجع إلى باب استفعال من الأبواب الصرفية بمعنى طلب الفعل، أي إني أطلب الغفران وستر أخطائي من الله تعالى.
في بعض الأوقات عند التكلم حول الغفران يأتي مرادفا للعفو، وهنا لابد أن نبين الفرق بين العفو والغفران: أن الغفران يقتضي إسقاط العقاب وإسقاط العقاب هو ايجاب الثواب فلا يستحق الغفران إلا المؤمن المستحق للثواب وهذا لا يستعمل إلا في الله عزوجل فيقال غفر الله لك ولا يقال غفر زيد لك إلا شاذا قليلاً وهي صفة خاصة لله تعالى ولا تُنسب هذه الصفة للخلق، والعفو يقتضي اسقاط اللوم والذم ولا يقتضي ايجاب الثواب.[5]
لم هذا الاصرار على الغفران؟
فلننظر لحياتنا كم يتعامل الإنسان مع الناس في نهار واحد وكم الكلام الذي نقولهُ وسلوكيات نصدرها وأفعال نقوم بها خاطئة، حتى المشاعر كم نخطأ وكم نذنب بكل مفاصل يومنا، كل هذه الأمور تكون كالغمامة على القلب فعنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلی الله علیه وآله) أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً. "[6] ويكتب العلّامة المجلسي في هذا الحدیث: (الغين: الغيم وغينت السماء تغان: إذا اطبق عليها الغيم)، بمعنى أن الوقت الذي يستر الغيم على الشمس كذلك نحن طول النهار كم الأعمال الخاطئة أو المكروهة التي نفعلها فإنها تجعل القلب يُغان أي يُستر القلب بما تلتف حولهُ هذه الأعمال السيئة فتغطيه، فنحنُ بأمس الحاجة لإزالة هذه الغمامة الموجودة على القلب وتنظيف القلب مما يحوله، ومن رحمة الله تعالى أن فتح لنا باب الاستغفار فإنّ النبي بعظمتهِ وعلو درجتهِ يقول بأنهُ يستغفر سبعين مرة، فكيف بنا نحنُ البشر غير المعصومون فكم نحتاج إلى هذا الطريق؟!
آثار الاستغفار على بناء ذات الانسان في نهج البلاغة
لقد ورد الاستغفار في نهج البلاغة 7 مرات، وفي كل مرة وكل حديث يسلط الإمام (عليه السلام) على بعد من أبعاد الاستغفار وعلى أثر محدد من آثار الاستغفار، فإضافةً إلى الآثار العبادية في الآخرة فلهُ أيضاً آثار دنيوية وبناء لذات الإنسان، فمن هذه الآثار:
1-غرس الأمل:
فعن امير المؤمنين (عليه السلام):"عَجِبْتُ لِمَنْ يَقْنَطُ وَمَعَهُ اَلاِسْتِغْفَارُ."[7]
كل إنسان يتعرض لمصاعب وللفتن بشتى أشكالها، فنرى الأفراد الذين لا يشعرون بمعنى في حياتهم أو لا يعتقدون بوجود الله أو حتى الأفراد الذين ليس لديهم ارتباط قوي بالله تعالى تأخذهُ حالة القنوط وهي من أسوأ حالات المشاعر التي قد تمر على حياة الأنسان التي قد تفقدهُ القدرة والرغبة على الحركة من مكانه، فعندما يعرف الانسان أنه أمام عملية تفتح له باب جديد إلى تغيير سلوكه فبالتبع ستتغير قناعاته امتدادا لهذا، فالاستغفار يفتح باب الأمل للخروج من حالة اليأس والقنوط والبدأ مرة أخرى باتخاذ أساليب حياة بعيدة عن ارتكاب الذنب.
يقول العلماء أنه يجب اعتبار الأمل مهارة معرفية تُظهر قدرة الشخص على البقاء متحمسًا في السعي وراء هدف معين، الأمل ليس شعورًا جميلًا فقط، بل هو شعور یشکل نظام التحفيز المعرفي للإنسان، ويحفز الانسان للحركة نحو الأمام، ونرى أن الاستغفار بالضبط لديه هذا الأثر، ففي الوقت الذي يكون الانسان فاقد الأمل بالنسبة إلى ذنوبه وأخطائه، فالاستغفار يفتح له باب أمل جديد نحو التغيير الذي يوصل الانسان إلى السعادة.
أظهرت الأبحاث أن الأمل والتنبؤ بمستوى أداء الشخص مرتبطان ارتباطًا مباشرًا ببعضهما البعض، هذا يعني أنه كلما زاد أمل الانسان في الحياة، زادت احتمالية نجاحه في مختلف المجالات.
وطرح الطبيب النفسي "ويكتور فرانكل" في مجال مشابه لمقالنا نظرية "العلاج بالمعنى (Logotherapy)" ولديه قضية بحيث تم اعتقالهُ لعدة سنوات في معسكرات الاعتقال النازية في ألمانيا، وأسس نظرية العلاج بالمعنى من خلال تعايشهِ في تلك المعتقلات من الجوع والحرمان من النوم فكان يلاحظ هذا الطبيب الأشخاص الذين لا يملكون معنى في حياتهم ولا عائلة بانتظارهم ولا رب يؤمنون به شديد الإيمان، كانوا يستسلمون لهذه الظروف القاسية فيتوفون أما الذين يمتلكون واحدة من تلك الأشياء أو كما يصرح هو لديهم معنى في حياتهم، كانوا يقاومون كل هذا التعذيب، ويقول بأن الهدف الذي جعلني أقاوم تلك الظروف هو لتأسيس هذه النظرية فكانت هدف جيد للمكافحة من أجله.
2-السلام والطمأنینة والاحداث الایجابیة:
يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «وَ قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ اَلاِسْتِغْفَارَ سَبَباً لِدُرُورِ اَلرِّزْقِ و رَحْمَةِ اَلْخَلْقِ.»(نهج البلاغة، خطبة 143في الاستسقاء)
إن من آثار الإيجابية للاستغفار هو أنه يدر الرزق على الإنسان، لا يشترط أن يكون الرزق هو فقط رزق مادي، بل أن الرزق اسم لما يملك صاحبه الانتفاع به[8]، وهذا يشمل أيضا الأرزاق المعنوية، ربما حدث لك أنه مرّ عليك يوم كامل ولم تنجز حتى أمراً واحداً وفي المقابل يأتي عليك يوم آخر وتنجز فيه الكثير من المهمات، هذا ما يسمى بالرزق المعنوي والاستغفار يكون أحد أسبابه.
ونرى في معنى كلمة (درور) أنه دَرَّ اللبن يَدِرُّ دَرّاً، وكذلك الناقة إذا حلبت فأقبل منها على الحالب شيء كثير قيل دَرَّت، وفي الحديث يعني أنه ليس فقط أن الاستغفار يأتي بالرزق بل أنه يأتي بالكثير منه.
وأيضا من الآثار الإيجابية للاستغفار هي رحمة الخلق، الاستغفار هو نوع من الدعاء، والدعاء القلبي والتمسك الروحي بالله تعالى سبيل لنزول السكينة والطمأنينة في قلب الإنسان وهذا السلام الذي يشعر به الإنسان هو أول أثر للرحمة الإلهية التي تكون مقدمة لفتح أبواب رحمة الله، الطمأنينة ستحدث طاقة إيجابية في الإنسان، والتي تکون بدورها مقدمة للأحداث الایجابیة، وهذه الأحداث الإيجابية هي نوع من الرزق الذي يجلبه لنا الإستغفار.
3- الأمان ودفع آثار السلبیة للأخطاء:
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): " كَانَ فِي اَلْأَرْضِ أَمَانَانِ مِنْ عَذَابِ اَللَّهِ وَ قَدْ رُفِعَ أَحَدُهُمَا فَدُونَكُمُ اَلْآخَرَ فَتَمَسَّكُوا بِهِ أَمَّا اَلْأَمَانُ اَلَّذِي رُفِعَ فَهُوَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وآله وَ أَمَّا اَلْأَمَانُ اَلْبَاقِي فَالاِسْتِغْفَار، قَالَ اَللَّهُ تَعَالَى: وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ".[9]
الأمان هو القطعة المفقودة من لغز حياة الإنسان في عالم اليوم، فلقد ملأ الفساد في البر والبحر بما ارتكبه من الأخطاء والذنوب، وأصبح انسان اليوم أكثر ما يتعطش له هو الأمان، والإمام (عليه السلام) في هذه الحكمة المباركة يعطي مفتاحا للوصول إلى لغز الأمان، فالأمان الأول هو رسول الله (صلى الله عليه واله)، نقرأ في زيارة النبي (صلى الله عليه واله) في يوم السبت: " أُصِبْنَا بِكَ يَا حَبِيبَ قُلُوبِنَا فَمَا أَعْظَمَ الْمُصِيبَةَ بِكَ حَيْثُ انْقَطَعَ عَنَّا الْوَحْي"[10]، هذه حقا مصيبة باننا اليوم منقطعين عن رسول الله (صلى الله عليه واله) وعن وحيه وعن هدايته لنا، ولو أننا عشنا اليوم في محضر رسول الله(صلى الله عليه وآله) لاستفدنا من أثر الهداية المباشرة لرسول الله(صلى الله عليه وآله) لنا ولكانت حياتنا كاملة بصورة أخرى، ولكننا مع الأسف حرمنا من وجوده المبارك ويبقى لدينا الأمان الثاني الذي عرّفه لنا الإمام علي (عليه السلام) وهو الإستغفار.
كيف يوجب الإستغفار الأمان لنا؟! يمكن أن نقول أن الذنوب والأخطاء حتماً لها آثار سلبية وهي نوعين: آثار سلبية تكوينية كانقطاع المطر وجفاف الأرض وتلوث الجو وارتفاع درجات الحرارة وغيرها من الأمور، وآثار سلبية معنوية كازدياد حالات الكآبة وانتشارها بشدة، وازدياد حالة القلق واضمحلال الشعور بالسعادة وعدم الارتياح في الحياة، وهذا نابع من عدم الشعور بالأمان وبواسطة الاستغفار يمكننا دفع هذه الآثار السلبية الناتجة من الأخطاء والذنوب.
خطوات الاستغفار في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)
بشكل عام إن أي عمل نريد أن نقوم به أو أي موقف نريد أن نتخذه، سلبيا كان او إيجابيا، يكون ضمن المثلث المعرفي الذي تكلم عنها العالم النفسي (بك) [11] الذي يشمل:
1- الأفكار
2- المشاعر
3- السلوك
كمثال لو أردت ان تنجح بتخصص جيد في الجامعة، المرحلة الأولى انت تشعر بالحاجة بأنك تريد الوصول الى النجاح، المرحلة الثانية هو أنك فكريا تتخذ القرار وتكون لك الإرادة والتصميم حتى تصل الى هدفك، والمرحلة الأخيرة ستجدّ بسلوكك وتدرس بجدّ وتسهر وتطالع مختلف الكتب.
ونرى أيضا ان هذا المثلث المعرفي موجود في الحكمة التالية لامير المؤمنين (عليه السلام).
ومثال للجانب السلبي عندما ترى درجتك في امتحان ما، المرحلة الأولى ستشعر بالحزن والإحباط، في المرحلة الثانية تفكر أنك لا تستطيع النجاح في أي شيء، والمرحلة الثالثة سلوكيا ستكف عن الدراسة والمطالعة.
الاستغفار كأي عمل عبادي اخر كالصلاة والصوم يكون به درجات، أقل درجة للإستغفار هي قول جملة: ( أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ رَبِّي وأَتُوبُ إِلَيْه (، وأعلى درجة للاستغفار هي ما يقوله الامام علي (عليه السلام) في الحديث الآتي أن الاستغفار يشمل خطوات متعددة ولو أردنا نحن ان نصل الى اعلى درجات العليين يجب أن نخطي هذه الخطوات الست الآتية:
ففي حكمة رقم417 من نهج البلاغة، يقول أحدهم (أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ) في محضر أمير المؤمنين(عليه السلام)، فقال له الامام بصورة غاضبة: " ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ أَ تَدْرِي مَا اَلاِسْتِغْفَارُ؟ إِنَّ اَلاِسْتِغْفَارَ دَرَجَةُ اَلْعِلِّيِّينَ وَهُوَ اِسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ:
1- أَوَّلُهَا اَلنَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى..
الخطوة الأولى: الندم... وهي خطوة المشاعر والإنفعال النفساني، ففي هذه المرحلة يجب على الإنسان أن يتقبل واقع أخطاء التي ارتكبها، وأن يشعر بالتألم للخطأ الذي ارتكبه ويشعر بتأنيب أني لماذا قمتُ بهذا العمل؟
ونرى هذا الندم موجود في قضية المتوكل مع الامام الهادي (عليه السلام)، فالمتوكل العباسي الذي كان قد عقد مجلس شرب الخمر-والعياذ بالله-واستحضر الإمام الهادي (صلوات الله عليه)، فقرأ الإمام تلك الأبيات المعروفة:
بَاتُوا عَلَى قُلَلِ الْأَجْبَالِ تَحْرُسُهُمْ |
غُلْبُ الرِّجَالِ فَلَمْ تَنْفَعْهُمُ الْقُلَلُ |
|
وَاسْتَنْزَلُوا بَعْدَ عِزٍّ مِنْ مَعَاقِلِهِمْ |
فَأُسْكِنُوا حُفَراً يَا بِئْسَ مَا نَزَلُوا |
|
نَادَاهُمُ صَارِخٌ مِنْ بَعْدِ مَا دُفِنُوا |
أَيْنَ الْأَسِرَّةُ وَالتِّيجَانُ وَالْحُلَلُ |
|
أَيْنَ الْوُجُوهُ الَّتِي كَانَتْ مُحَجَّبَةً |
مِنْ دُونِهَا تُضْرَبُ الْأَسْتَارُ وَالْكِلَلُ |
|
فَأَفْصَحَ الْقَبْرُ عَنْهُمْ حِينَ سَاءَلَهُمْ |
تِلْكَ الْوُجُوهُ عَلَيْهَا الدُّودُ تَنْتَقِل |
وعندما سمع المتوكل العباسي هذه الأبيات، أخذ يبكي مع ظلمه وإجرامه، حتى أبتلت لحيته بدموعه، فتأثر وتألّم[12] لكنَّ هذا لا يكفي، فنصل الى مرحلة الثانية.
2-اَلْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ اَلْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً
الخطوة الثانية هي الخطوة الفکریة واتخاذ قرار، والإرادة والتصميم فبعد أن يصمّم أحدنا على أن يتذكر ذنوبه ويندم عليها ويتألّم، يصمم بإرادة قاطعة على ألا يعود إليها ثانية.
3-اَلثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى اَلْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اَللَّهَ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ
لقد تكلم الامام (عليه السلام) عن بعد السلوكي في ثلاث أقسام: السلوك بالنسبة الى الاجتماع، والعبادة، والى الجسم، فالخطوة الثالثة هي التصرف السلوكي الصحيح بالنسبة الی الاجتماع، بأن يعوض الإنسان عما ارتكب من الأخطاء مع الناس.
4-أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا
والخطوة الرابعة هي التصرف السلوکي الصحیح العبادي، فالإنسان اذا كانت في ذمته بعض العبادات عندما يتوب الى الله سبحانه يجب ان يتصرف في هذا الاتجاه من قضاء الصلوات أو الأعمال الفائتة كما ورد عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): «اقْضِ مَعَ كُلِ صَلَاةٍ صَلَاةً»[13]، أي نضع ضمن برنامجنا اليومي للصلوات الخمس نقضي صلاة أخرى وخلال سنوات ستكون صلواتنا الفائتة قد انقضت بتوفيق من الله تعالى.
5 و6-واَلْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اَللَّحْمِ اَلَّذِي نَبَتَ عَلَى اَلسُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالْأَحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ اَلْجِلْدَ بِالْعَظْمِ ويَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ واَلسَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ اَلْجِسْمَ أَلَمَ اَلطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاَوَةَ اَلْمَعْصِيَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ.[14]
والخطوة الخامسة والسادسة هي التصرف السلوکي الصحیح بالنسبة الی الجسم، فكل ذنب يذنبهُ الإنسان جميع أجزاء وخلايا جسدهِ ستتأذى من هذا الذنب لأن كل خلايا جسم الإنسان حية وتتأثر تكوينياً بالذنب ولكننا لا نرى أو لا نفهم ذلك، وكما أنك تذيق الجسم مرارة المعصية يجب أن تعوضهُ وتذيقهُ حلاوة الطاعة.
إذا استخدمت هذه الخطوات الستة للاستغفار فإنك أديت حق الاستغفار واستغفرت بالطريقة الصحيحة.
هناك قضية للسيد المرعشي الذي كان مرجع ديني في زمانه مقيم في قم المقدسة، يقول السيد: كان هناك رجل من المؤمنين كبير بالعمر يُبان عليه أنه متدين يأتي إلى المسجد ويصلي جماعة وعدة تفاصيل تبين التزامهُ الديني، بمرور الأيام أصبحت أثق به لأني لم أرَ شيء مخالف من عنده فكنت أسلمهُ جزء من أعمالي المالية الكبيرة المتعلقة بالدين، فبعد مرور فترة جاء هذا الرجل وطلب الحديث معي بغرفة خاصة على انفراد، فقال لي: أنني خنت الأمانة التي وكلتها إلي والأموال التي كنت تعطيني إياها لأداء أشغالكم المالية كنت أنفقها على نفسي، فيقول السيد صُعقت وتأثرت جداً بهذا الفعل، فقال هذا الرجل أنا نادم ومستعد لعمل أي شيء بنية تصحيح هذا الخطأ، فقاموا بحساب جميع الأموال التي بذمة الرجل، فسأل السيد المرعشي هذا الرجل كيف ستسد كل هذه الأموال إنها مبلغ كبير، أجابهُ الرجل بأن لديه دكان سيبيعهُ ليسد هذه الأموال فباعهُ وسدد ما بذمتهِ ثم عاد السيد المرجعُ وسأله كيف ستعيش وقد بعت باب رزقك؟ فقال الرجل: إن رزقي على الله تعالى، فصفى الرجل ما بذمته من الأموال وبعد أيام معدودة جاء خبر بأن هذا الرجل توفى ولاقى الله طاهراً من الذنب ومعتوقاً من الدين الذي كان بذمته.
هذه القصة توضح الخطوات التي ذكرها أمير المؤمنين (عليه السلام) وكيف يجب أن يكون للإنسان ارادة قوية لاتخاذ القرار الذي قد يغير حياة الإنسان وأن يمتلك نية صادقة لتصحيح الخطأ وتعديلهِ والاستغفار عنه.
وختاماً ندعوا بدعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام):" وَقَدْ قُلْتَ يَا إِلَهِي فِي مُحْكَمِ كِتَابِكَ: إِنَّكَ تَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِكَ، وَتَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ، وَ تُحِبُّ التَّوَّابِينَ، فَاقْبَلْ تَوْبَتِي كَمَا وَعَدْتَ، وَ اعْفُ عَنْ سَيِّئَاتِي كَمَا ضَمِنْتَ، وَ أَوْجِبْ لِي مَحَبَّتَكَ كَمَا شَرَطْت[15] بحق محمد وآل محمد.
اضافةتعليق
التعليقات