قد يكون هناك في العالم من لم يشعر مطلقاً بالمعاناة. لا أعرف أحداً مـن هؤلاء.. هذه التجربة الكونيـة دفعت الكثيرين للتشكيك في وجـود الإله الرحيم. كما عبر لويس في كتابه The Problem of Pain يمكن وضع هذه الإشكالية على النحو التالي "إذا كان الله يتصف بالخير، فإنه ينبغي عليـه أن يعمل على أن تعيش مخلوقاته بسعادة، وإذا كان الإلـه قـادر على كل شيء فإنـه قـادر على تحقيـق رغبتـه بـذلك. ولكـن المخلوقات ليست سعيدة. لذلك فإن الإلـه يفتقـر إمـا إلى الخيـر أو إلى القـدرة أو إلى كليهما".
هناك عدة إجابات على هذه المعضلة. بعضها أسهل للقبول به من البعض الآخـر. في المقام الأول، علينـا أن نـدرك أن قسماً كبيـراً مـن معاناتنـا ومعاناة الآخرين هي بسبب ما نقوم به تجاه بعضنا البعض. البشرية هي مـن صنعت السكاكين والسهام والمسدسات والقنابـل وكـل أنـواع أدوات التعذيب التي استخدمت طوال العصور. من الصعب جـداً تحميـل الإلـه مأساة مقتل شاب بسبب سائق مخمور، أو تحميله مسؤولية مقتـل إنسان بريء في المعركة، أو مقتل فتاة صغيرة برصاصة طائشة في جريمة وقعت في مدينة حديثة.
في النهاية، نـحـن أحـرار إلى حد معين فيما نفعـل، ونحن نتصرف كما نرغب. ونحن كثيراً ما نستخدم هذه القـدرة فـي عـدم إطاعة القانون الأخلاقي. عندما نقوم بذلك ينبغي أن لا نـلـوم الإله على العواقب. هل ينبغي على الإله أن يقيد حريتنا من أجل أن يمنع حدوث مثـل هـذه السلوكيات الشريرة؟ هذا النوع من التفكير سريعاً ما يصطدم بمعضلة لا يوجد لهـا جـواب عقلاني. ومـرة أخـرى يؤكـد لـويس على هذا المعنى بشكل واضح بقولـه "إذا اخـتـرت أن تقـول أن الإلـه يمكـن أن يمنح المخلوقات حرية الاختيار وفي نفس الوقت تريد أن تكبح حرية الاختيار هذه، فإنك عندها لن تكون قد قلت شيئاً عن الإله. تركيب من الكلمات التي تفتقر للمعنى لا يمكنها فجاءة أن تعطي معنى للكلام، لأننا ببساطة بدأناها بكلمتين "الله يستطيع". ما لا معنى له يظل عـديم المعنى، حتى لو كان كلامنا عن الإله". يظل أن من الصعب قبول الحجج العقلانيـة عنـدما يتعلق الأمر بتجربة معاناة قاسية لإنسان بريء.
أعرف طالبة كلية كانت تعيش وحـدهـا خـلال إجازة الصيف بينما كانت تقوم بأبحاث طبية كنوع من الاستعداد لتصبح طبيبة. استيقظت الفتاة في عتمة الليل لتجد رجلاً غريباً يقتحم شقتها. وضع الرجل سكيناً على رقبتها، وتجاهـل تـوسـلاتها وعصب عينيهـا ثـم اغتصبها. لقد تركها في وضع مأساوي، ومكثت الفتـاة سـنوات وسنوات لكي تتعافى من هذه التجربة، في حين لم يقبض على الفاعل حتى الآن. تلك الشابة كانت ابنتي. لم أدرك الشر المطلق إلا في تلك الليلة. ولـم أتمنى بلهفة أن يتدخل الإله في شيء كمـا تـمنيـت أن يتدخل بطريقة ما لمنع هذه الجريمة البشعة. لماذا لم يوجه الإلـه صاعقة إلى المجرم؟ أو على الأقل يجعله يؤنب ضميره؟ لماذا لـم يضع درعـاً خفيـاً حـول ابنتي لحمايتها؟ لعل الإله يتدخل في البعض الحالات النادرة بمعجزات، ولكـن الجانـب الأكبر الذي يتم مـن خـلال الإرادة الحرة وعبـر نـظـام الـكـون المـادي هـو حقيقة أصيلة. في حين أننا نرغب بأن تتكرر مثـل هـذه المعاجز فـإن ما يترتب على ذلك سوف سيؤدي إلى أن تعم الفوضى. ماذا عن وقوع الكوارث الطبيعية: الزلازل، موجات التسونامي، البراكين، الفيضانات الكبيرة، والمجاعات؟.
وعلى نطاق أصغر ولكن لا يقل تأثيراً، ماذا عن إصابة ضحية برئ بالمرض مثل إصابته بالسرطان في طفولته؟ يشير الكاهن الانجيلكـاني والطبيب المميـز جـون بولكينغهـورن John Polkinghome إلى هذه الفئة من الوقائع بأنهـا "الشـر المـادي" في مقابـل الشر الأخلاقي الذي يقوم به البشر. كيف يمكن تبرير ذلك؟ العلم يكشف عن أن كوكبنا والحياة ذاتها يعمـل عبـر عمليـة تطورية، ما يترتب على ذلك يمكن أن يشـمل عـدم القـدرة على التنبؤ بـالطقس،
أو عمليـة انزلاق لطبقة في باطن الأرض، أو تشـوه فـي جـيـن السرطان في انقسام الخلية المعتادة؟ إذا كان الإله قد اختار أن يستخدم هذه القوى في خلق البشر فإن حتمية التبعات المؤلمة لذلك تصبح مؤكدة. على الأقل فإن التدخل الإعجازي المتكرر سوف يعد فوضى في المجال الفيزيائي بنفس مقدار التدخل في الأفعال الحرة للإنسان. هذه التفسيرات العقلانية تعد قاصـرة بنظـر الساعين للحقيقة في تبرير تجربة المعاناة الإنسانية.
لماذا يجب أن تكـون حياتنـا أقـرب إلى دمـوع الوداع منها إلى حديقة للبهجة؟ لقـد كـتـب الكثيـر عـن هـذه المفارقة، والنتيجة ليست بهذه البساطة: إذا كان الإله يحبنا ويريد لنـا الخـيـر فـإن غايته مثل غايتنا. هذا مفهوم معقد، وخاصة إذا تم تربيتنا بصورة مستمرة على صورة الإله الرحيم، وهو ما يفترض أن الإله يرغب في إسعادنا على الدوام.
مرة أخرى نعود إلى لويس حيث يقول "في الحقيقة ما نرغب به هو أكثر من موقـف والـد فـي الجنـة، بـل هـو أقرب إلى موقـف جـد في الجنـة، حيـث عـطـف كـبـار الـسـن الـذيـن يـحبـون أن يـروا صـغار السـن يستمتعون بـوقتهم، وهـم الـذين يخططون للكـون بطريقـة تسمح لهـم بالقول في نهاية كل يوم لقد كان وقتاً جميلاً بصحبة .. ".
إذا حكمنا من خلال التجربة البشرية، فإنه إذا قبـل شـخص بصـورة الإله المحب الرحيم فإنه بذلك يرغب بوضوح أن يكـون الإله على شاكلتنا؟ أليست هذه في الحقيقة هي تجربتنا؟ هل تعرفت على نفسك بشكل أكبر عندما تجـري الأمـور لصالحك، أو عندما تواجه بالتحديات والإحباط والمعاناة؟ "الإله يهمس بنا في أوقات سعادتنا ويتحدث إلى ضمائرنا، ولكنه يصرخ عند آلامنا: إنه ميكرفونه عالي الصـوت الـذي يـوقظ العـالم الأصم".
بمقدار ما نحاول أن نتجنب المرور بهذه التجارب، ألـن نـكـون ضحلين بدونها، بحيث نكون كائنات تتمحور حول نفسها لتفقـد تماماً الإحساس بالنبل والحاجة إلى مساعدة الآخرين؟ فكر فيما يلي: إذا كان أهم قرار نتخذه في الأرض هو القرار الذي يخص الدين، وإذا كانت أهم علاقة نبنيها في هذه الأرض هي العلاقة مع الإله، وإذا كان وجودنا ككائنات روحية لا يقتصر على ما يـمكـن أن نتعلمه أو نراقبه في حياتنا الدنيوية فإن المعاناة الإنسانية سـوف تـكـون فـي سياق آخر تماماً.
قد لا نفهـم على الإطلاق أسباب تجارب المعاناة، ولكـن يمكننا أن نبدأ بتقبل فكرة وجود مثل هذه الأسباب. في حالتي يمكنني أن أرى وبشكل خافت بأن اغتصاب ابنتي كان تحدياً لي لتعلم المعنى الحقيقي للصفح في الحالات المأساوية. بصراحة كاملة، أنا لا زلت أعمل على ذلك. ولعـل ذلـك كـان فرصـة لي لإدراك أنني لا أستطيع حماية ابنتي بشكل كامل من المعاناة والألم. تعلمت أن أفـوض ذلك إلى عناية الإله، وإن كنت أعلـم أن ذلك لا يعني مناعـة مـن الشـر، ولكنه تأكيد على أن هذه المعاناة لن تذهب سدى. في الحقيقة، سوف تقول ابنتي بأن هذه التجربة أعطتهـا الفرصـة والـدافع لتقـديم النصيحة والسلوى لأولئك الذين مروا بتجربة مشابهة لهذا الاعتداء. القول بأن الإله يعمل من خلال المحن ليس مفهوماً يمكن قبوله بسهولة، ولا يمكن التعويل عليه، إلا من خلال الاعتماد على وجهـة نظـر تستند للاعتبار الروحي. في الحقيقة إن مبدأ الترقي من خلال المعاناة مبدأ عـام في أديـان الـعـالـم الكبـرى.
الحقائق الأربعـة لـبـوذا تبـدأ بـعبـارة "الحيـاة معاناة". هذه القناعة قد تصبح مصدر راحة. تلك المرأة التي اعتنيت بها كطالب طب تحدت إلحادي من خلال تقبلها لمرضها المميـت. لقـد وجـدت هـذه المرأة أن مرضها وهـي فـي أيامهـا الأخيرة يقربها إلى الإله أكثر مما يبعـدها عنه. على مستوى تـاريخي أوسع، نجد أن ديتريتش بونهوفر Dietrich Bonhoeffer وهـو اللاهـوتي الألماني الذي عاد إلى ألمانيا من الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية للإبقاء على الكنيسة على قيد الحياة، في الوقت الذي اختـارت الكنائس المنظمة في ألمانيا أن تؤيـد النازيين، قـد تـم سـجنه بتهمة الاشتراك في مؤامرة لاغتيال هتلر. خلال سنتين مـن بقاءه في السجن، عانى بونهوفر من الإهانات وفقدان الحرية، ولكـن إيمانه أو تقـديره لـم يتأثر. وقبل وقت قصير من شـنقه قبـل ثلاثة أسابيع مـن تحرير ألمانيا كتب بونهوفر هذه الكلمات "الوقت الضائع هـو الـوقـت الـذي لا نعيش فيـه، هـو الـوقـت الـذي لا يعـزز تجاربنا، ولا يعـزز سعينا الحثيث والاستمتاع والمعاناة .
اضافةتعليق
التعليقات