إن من الفتوحات المعرفية للسيدة الزهراء(عليها السلام) في خطبتها الشريفة هي تبيان دور التشريعات الإلهية في حياة الإنسان بشكل خاص، والمجتمع بشكل عام، وكيف إن هذا الدين وكل ما جاء بتشريعاته هو لبناء الفرد وإيصاله لكماله الإنساني.
وهنا سنتطرق لفقرة واحدة من خطبتها التي قالت (عليها السلام) فيها: "والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق"(١)، إذ تُعد الزكاة من ضروريات الدين المؤكدة، ومن أركانه التي بُني عليها، لما لها من آثار مادية ومعنوية على المؤتي لها.
تأملات في مفردات هذه التبصرة الفاطمية
نجد إن الفقرة بدأت بالزكاة ثم التزكية ثم نماء الأرزاق، ولعل ذلك لكون العطاء قيمة مغروسة بالفطرة، تحتاج أن تتحول إلى سلوك، فإن جربه الإنسان سيذوق حلاوة هذه القيمة المعنوية، وستحصل لديه استنارة داخلية لتتحول هذه السمة إلى مَلَكة ذاتية فتسمو ذاته الإنسانية.
وعندئذ تتحقق تزكية النفس بهذا المصداق؛ فالنفس لما تُلهِم صاحبها حُب العطاء هي علامة على أنها في طور النمو والتطهير بالتخلي عن التعلق بأي شيء في حوزتها، وهكذا ستكون قادرة على بذله وإعطاءه، لأنها مستغنية بالمصدر الأصل لهذه العطيات، ومستشعرة بصدق من هو المالك الحقيقي الذي بيده المنع والعطاء.
كما إن من الملفت أن السيدة (عليها السلام) نسبت فعل التزكية لصاحبها، أما في الرزق فلم تعبر بـ(تنمية) بل قالت و(نماء)، لأن في النماء إتمام الرزق والحصول عليه بشكل دفعي- لا تدريجي كما في مفردة (تنمية)- فهو فعل يوحي لصدوره كجزاء من الله تعالى المُعطي لتلك الأرزاق، كما في قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}(الروم: 39).
كما وعبرت السيدة (عليها السلام) بقول (في الرزق) وكأن في ذلك تأكيد على التوسعة في دائرة الخير والنفع الذي سيناله المُحسن/دافع الزكاة في عموم رزقه لا في المورد الذي أنفق منه فقط، وذلك وفق القانون الإلهي {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}(الرحمن:60)، وإحسان الله تعالى بلا شك هو أكبر وأتم وأعظم.
التبصرة الفاطمية من وحي تبصرة قرآنية عامة
إن هذه الفقرة التي ذكرتها السيدة متحققة في مجموعة من الآيات، واحدة منها قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5)وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7)وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8)وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}(الليل:10)، فعند التأمل فيها نجدها عِظم هذا التشريع ودوره في حياة الإنسان، إذ قسمت الناس إلى صنفين:
الصنف الأول هو من تنطبق عليه التبصرة الفاطمية، فالعطاء مفهوم عام، والزكاة مفهوم خاص منه، والتصديق والتقوى أتيا في قبال تزكية النفس، ففي قوله تعالى: {...وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(البقرة :177).
وأهل التقوى المصدقون هم ممن يعملون على تزكية أنفسهم، كما يشير لذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ.... فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}(النجم :32)، إذ النهي يراد به أن لا يجزم المتقي إنه قد بلغ مقام التزكية فيصف نفسه به، بل تكليفه هو العمل المستمر على تزكيتها.
ثم إن التيسير لليسرى هو في قبال مفهوم نماء الرزق، ومن الجدير بالذكر أن (التيسير لليُسرى/نماء الرزق) الحاصل لا يعني عدم الحركة والسعي بل ذكرت الآية أن هناك صبرًا على البأساء والضراء، وهناك وفاء بالعهود شارة لتحمل المسؤولية.
إنما يعني تحقق استشعار معية الله تعالى وتقبل اختبارات الدنيا وطبيعتها لكونها دار محفوفة بالمصاعب، عندئذ يعيش حالة التيسير لليسرى داخليًا بتحقق الاطمئنان، وخارجيًا بالاهتداء لأفضل الخيارات وأصوبها لبلوغ ما يسعى إليه.
أما الصنف الآخر هو ممن لا تنطبق عليه تبصرة الصديقة (عليها السلام)، غير العامل بهذا التشريع ممن يتصف بالبخل بشكل عام، والآية الكريمة عللت ذلك لوجود حالة من الاستغناء لديه - فكما يبدوا- للاستغناء أوجه يمكن أن نستلهمها من ظاهر الآية نفسها منها:
وجه الاكتفاء بما عنده لأنه يرى ما بين يديه؛ فيخاف فقده إن أعطى منه فلا ينفق منه، أي إن البخيل عادة يكون صاحب نظرة مادية محض أي هو يفهم أن ما يعطيه للآخرين بلا مقابل منهم إنما هو خسارة ونقصان في أصل ما عنده من أرزاق.
ووجه إنه يرى نفسه إنه المصدر والسبب الأصل في ما يملك، [فيُكذب] بحقيقة أن ما لديه من نِعَم هي بالأصل حصل عليها من المُنعم (عز وجل)؛ لذا هو ممن [لا يُصدق] إن إحسانه بالإنفاق مما لديه سيزيد أو سيعود عليه بالمزيد.
ولهذا نرى إن من صور التيسير للعسر وليس العسر فقط التي تتجلى في حياة البخيل أنه يكتنز ما يحصل عليه من أرزاق كالمال والثروات ولا ينفقها حتى على نفسه، ويجعل من حوله يعيشون الفقر، ويموت وهو غير منتفع منها في حياته ولا حتى بعد مماته، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة :34).
تنبيه تربوي فاطمي
إن خلود هذه الخطبة بكل ما قيل فيها، إنما حصل لكون مُلقيها من أهل القول والفعل، فهذه الفقرة ما هي إلا إحدى مصاديقها، فالسيدة (صلوات الله عليها) كانت تعيش كل هذه المعاني وقد تجسدت فيها، وسارت بكل ما جاءت به الشريعة، حتى أصبحت حجة على العالمين، ومثال وقدوة للمتشرعين.
فهي "الزكية" التي لم تكتفي بأن تكون امرأة كريمة وذات جود وسخاء، بل كانت من أهل الإيثار بالعطاء، كانت تؤثر الجميع ولو كان بها خصاصة، وكانت تؤثر حتى على مستوى الدعاء فتقدم الجار قبل أهل الدار، وفي ختام مسيرتها آثرت ببذل نفسها في سبيل سلامة دين أمة نبيها المختار (صلى الله عليه وآله).
فلم تصل إلى مرحلة نماء الرزق بل هي ذاتًا تجلى فيها معنى تمام الأرزاق، فحبها وقربها وموالاتها والبراءة من أعدائها رزق تام كامل لا يناله إلا ذو حظ عظيم.
بالنتيجة السيدة (عليها السلام) تُبصرنا لحقيقة أننا متى ما كان أحدنا من أهل العطاء والبذل بما يُكلَف به ويُنعَم فيه، ستسمو نفسه، ويتصل بربه، فيُسخر له المزيد، ليَستثمره في استعمار ما استخلف فيه؛ فيعيش (التيسير لليسرى/نماء الرزق)، ويتجنب عقبة (التيسير للعسر/التقتير بالرزق)، وهكذا نصل لفهم شيء من أثر هذا التشريع، وأصل فائدته العائدة على نفس العامل به.
__________
اضافةتعليق
التعليقات