تقوم النظرية الإدارية في فكر الإمام علي (عليه السلام) على مجموعة معايير من أهمها:
1_ معيار الثواب والعقاب ومدى التزام العمال والموظفين بالتنظيم الإداري المرسوم فى الخطة، فالناجحون في مهامهم يستحقون الثناء والترقية نحو المهام الأسمى والأكثر دقة، كما حدث لعامله على البحرين عمر بن أبي سلمة المخزومي الذي نال ثقة الإمام، فاستدعاه إلى الالتحاق به حين قرر السير إلى الشام، مثنياً عليه بالعبارة الآتية: (فلقد أحسنت الولاية وأديت الأمانة، فأقبل غير ضنين ولا ملوم ولا منهم ولا مأثوم فإنّك ممن استظهر به على جهاد العدو وإقامة عمود الدين)، وفي المقابل أظهر الإمام علي (عليه السلام) امتعاضاً مما وصله عن قاضي الكوفة شريح بن الحارث وشراء دار له، وتشكيكاً باستغلال منصبه، فاستدعاه وقال له: (فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك، أو نقدت الثمن من غير حلالك، فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة).
2_ معيار الرقابة الإدارية على الموظفين ومتابعة أحوالهم والتقارير التي تصدر في حقهم وعلاقتهم بالرعية، فكان يتصدر أوليات الأعمال الإدارية لديه الأمر الذي استلزم وضع المعايير على أساس الكفاءة والورع وممارسة الفرائض، فضلاً عن وضع شرطة سرية ترصد حركات الموظفين والعمال الحكوميين مما يساعد الإمام على العزل والتنصيب، من هنا نجد الإمام علياً يوجه كتاباً إلى أحد عماله، تقديم كشف لحسابه، بعدما بلغه من أخبار عن سوء أمانته وإثرائه على حساب منصبه واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس. كما يؤاخذ يطلب منه: عامله عثمان بن حنيف لتلبيته لوليمة أقامها رجل من البصرة. فالعامل بشر، ويجب أن يكون محصناً إزاء المغريات.
القواعد الضابطة للإدارة
لا بد للإدارة من ضوابط تقوم شكل التنظيم الذي تسير فيه حتى لا تقع فريسة الأهواء أو الأطماع ومن هذه القواعد التي اعتمدها نظام الإمام ما يلي:
1_ قاعدة الهادفية وهي تعني ضرورة تحديد الهدف، وأن يكون هذا الهدف منسجماً مع أهداف الإنسان في الحياة، وبالتالي يجب أن تكون هذه الأهداف منصبة في بناء الإدارة القوية. وهنا نجد أنفسنا أمام دائرة متكاملة شاملة وهي المعبرة عن الفضائل الإنسانية والساعية أيضاً إلى تحقيقها في الحياة، وحيث إنه لا يمكن أن تنجح الإدارة من غير خطة زمنية تتحرك على أثرها في مواكبة مع تطبيق مبتغياتها، ولا شك أن الخطة لا يمكن رسمها إلا وفق هدف منظور أو غير منظور، ولعل هذا ما أكدت عليه الإدارة الإسلامية بشأن هدف الإسلام من العبادة، حيث رسمت له الهدف غير المنظور المتمثل في اكتساب نعيم الجنة، والوصول إلى دار الخلود حيث إن البقاء جنس المخلوقات هدف ترنو إليه الخلائق، فكانت الخطة نحو هذا الهدف تسير في تدرج في العبادة بشكل يتناسب وإمكانية البشر وقدراتهم ومداركهم.
كما وضعت الإدارة الإسلامية أهدافاً أخرى منظورة تتمثل في إعمار الأرض للعيش فيها بالعزة والسلامة والطمأنينة فكانت لائحة من القوانين والتوجيهات الإسلامية لتنظيم شؤون الحياة، لذا ومن هذا المنطلق نجد أن الإمام علياً (عليه السلام) يضع لإدارته أهدافاً منظورة تختص بالجوانب التنظيمية العسكرية والقضائية والاجتماعية، وأهدافاً غير منظورة تتركز في الجوانب التربوية وبناء الذات وتصحيح اعوجاج النفس لتعيش معنى العبودية الخالصة لله للوصول إلى الهدف.
2_ قاعدة العدل في العمل الإداري، وقد اعتبر الإمام (عليه السلام) هذه القاعدة هي الروح الأهم في القانون الإداري لدولة الإمام وقد انصبت القوانين الإدارية على تنميتها وتحقيقها حيث إنها هي التي تلتقي مع الإدارة إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور.
أما القاعدة الثانية في القانون الإداري عند الإمام علي: المساواة والتي برزت في إدارة الإمام بعد أن بدأت هذه القاعدة في التضعضع إثر التوسع الذي حدث للمسلمين وما أفاض عليهم من ثراء وتغيّر النفوس وميلهم إلى الدنيا بها.
وهذا ما يلتقي مع الطرح الحديث للنظريات الإدارية، فالقائمون على شؤون الإدارة الحديثة يعتقدون بأن المساواة بين الموظفين وعدم إيثار بعضهم بأنواع من الخدمات يأتي في صميم الإنتاج وخدمة المصلحة العامة. وانتهجت إدارة الإمام علي أيضاً قاعدة روح المسؤولية التي علقها في عنق القادة الإداريين وهي من أسس الإدارة التي أثبت علماء الإداراة دورها في السياسة الإنتاجية حيث يرى أن هذه المسؤولية تتحقق بعدة طرق بعضها سياسي وبعضها إداري.
استخدم الإمام في إدارته أسلوب اللين والشدة معاً وفق ما تقتضيه مصلحة العمل دون التعسف أو التفريط في مصالح الإدارة العليا.
فمن وصية له لمالك الأشتر بعد عزل محمد بن أبي بكر: "لَيْسَ لَهَا غَيْرُكَ، فَاخْرُجْ إِلَيْهَا، رَحِمَكَ اللهُ، فَإِنِّي إِنْ لَمْ أُوصِكَ اكْتَفَيْتَ بِرَأْيِكَ فَاسْتَمِنُ بِاللَّهِ عَلَى مَا أَهَمَّكَ، وَاخْلِطِ السُّدَّةَ بِضِغْثٍ مِنَ اللَّينِ، وَارْفُقُ مَا كَانَ الرِّفْقُ أَرْفَقُ، وَاعْتَزِمُ بِالشَّدَّةِ حِينَ لَا يُغْنِي عَنْكَ إِلا الشَّدَّةُ ".
فكما أن اللين والرفق عنصران ذوا أهمية عالية في الحكم والإدارة، فإن الحزم والاستقرار في اتخاذ القرار والشدة في تطبيقه إن كان عن دراسة مستفيضة بما يخدم مصلحة البلاد والعباد فإنّه أيضاً أمر مرغوب في الإدارة الإسلامية، لذا نرى الإمام رغم محبّته لمحمد بن أبي بكر وثقته به وما يتصف به من إيمان وصدق، إلا أنه كان يرجح تولي هاشم بن عتبة المعروف بالمرقال الذي كان أشجع من محمد وأقوى وأعظم تجربة: "وقد أردت تولية مصر هاشم بن عتبة، ولو وليته إياها لما خلى لهم العرصة، ولا أنهزهم الفرصة ".
وقد كان جملة من أصحاب الإمام يرون تولية محمد بن أبي بكر كونه أكثر معرفة بمصر وأهلها، ومن هنا كان له هيمنة على الرأي العام المصري وقبول لديه، ولم يكن الإمام يوافقهم هذا الرأي لأنه لا يرى فيه مقوّمات الصمود المتوافرة في هاشم نظراً لقلة تجربته، برغم ما يتصف بصفات الزهد والطاعة لأمير المؤمنين (عليه السلام) بما لا يخفى من الصفات، غير أن تلك الطائفة مارست ضغوطها كتلك التي مارستها بشأن التحكيم فلم يكن من الإمام سوى الاستجابة.
أسلوب العمل الإداري:
النظام الإداري في عهد الإمام علي (عليه السلام) يتميز بصفة هامة شكلت أسلوبه التنظيمي واعتبرت فيما بعد جزءا أساسياً من الإدارة الحديثة ومنهجية العمل.
تبدأ هذه الصفة في العمل الإداري منذ بدايته أي على مستوى وضع الخطة ورسم الأهداف فنجاح المدير يكمن في عدم الاستبداد بالرأي فيقول: "من استبد برأيه هلك ومن شاور الرّجال شاركها في عقولها"، ذلك لأن الاستبداد طريق الفشل، ولعل هذه الصفة تلتقي مع بعض الضوابط الإدارية التي اشترطها الإمام علي في إدارته، وخاصة العلاقات الإنسانية التي يجب أن تتخلق في بيئة اجتماعية يلفها رباط الأخوة كما يقول الإمام علي: "عاشر أهل الفضل تسعد وتنبل" .
وتنبع هذه الصفة عند الإمام من اعتقاده بأن أجزاء العمل الحياتي متداخلة ضمن رابط الإدارة الواحدة فالاقتصاد متداخل مع السياسة ويعتمد على الإدارة وهما انعكاس لطبيعة الإنسان وأساليب رقيه ونموه وكيفية معالجته للمشاكل والأزمات سواء بمفرده أو مع الجماعة.
الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) له رأي في النظرية الإدارية المتكاملة تبدأ من رب الإنسان، إذ يعتبر الإنسان هو قبضة من طين ونفخة من روح حيث يقول: تم نفخ فيها من روحه فمثلت إنساناً ذا أذهان يجيلها وفكر يتصرف بها وجوارح يختدمها ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل والأذواق والمشام والألوان والأجناس معجوناً بطينة الألوان المختلفة والأشباه المؤتلفة والأضداد المتعادية والأخلاط المتباينة.
وهنا يشير الإمام إلى أن أساس العمل الإداري هو التفكير السليم أي القوة العقلية القادرة على إدارة المجتمع باعتماد الصفة الجماعية أو العقل الجمعي فالعقل الإداري هو ما يخلق حالة التعايش مع المجتمع ذي مسؤولية التكافل ويظهر الجميع قدراتهم وإبداعاتهم، يقول الإمام: قوام الدنيا بأربع عالم يعمل بعلمه وجاهل لا يستنكف أن يتعلم وغني يجود بماله على الفقراء، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه.
فإذا لم يعمل العالم بعلمه استنكف الجاهل أن يتعلم، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنياه، ولا بد للمجتمع من روابط تربطهم، وكلما قويت هذه الروابط قوي المجتمع وأصبحت الإدارة متيسرة في إدارته، فالمجتمع هو البيئة التي تنشأ فيها الإدارة، وبدون مراعاته تصبح الإدارة هي إدارة آلات ومنشآت والمفروض أن تكون الإدارة هي إدارة موارد بشرية قبل الموارد المالية والإدارية لذا وجهت انتقادات إلى المفكر الألماني (ماكس فيبر) عندما لم يهتم بالبيئة الاجتماعية التي تنشأ فيها الإدارة فجاء نموذجه في البيروقراطية تنقصه الروابط الإنسانية. وقد حث الإمام على لزوم الجماعة والابتعاد عن الفرقة فقال: الزموا الجماعة واجتنبوا الفرقة. وقال: "والزموا ما عقد عليه حبل الجماعة ".
إن الأسلوب الجماعي في اتخاذ القرار لا يلغي قدرات الفرد بل يستنهضها ويدعو إلى اكتشاف مبكر للإبداع الفردي نظراً لما تشكله مسؤولية صنع القرار من ضرورة صياغة الفكر الإداري لدى الأفراد، وعلى هذا الأساس فقد اتبع النظام الإداري للإمام سياسة البرامج الزمنية للحياة اليومية العملية والترفيهية فيقول: إن للقلوب شهوة وإقبالاً وإدباراً فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها فإن القلب إذا كره عمي .
ولا شك بأن البرنامج المعد سلفاً يراعى فيه قتل الفراغ وطرد السأم فيقول (عليه السلام): "إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان".
اضافةتعليق
التعليقات