يعيش العالم الإسلامي على نحو الخصوص موجة من الصراعات الفكرية الكثيرة التي تعمل جاهدة على طمس الهوية الإنسانية التي أقرها الله تعالى للبشرية، فنشاهد على إثرها تيارات فكرية مثل النسوية والجندرة والشذوذ وغيرها من التيارات التي بدأت تدخل إلى حياتنا وتحاول أن تأخذ حيزا بين الأوساط العامة.
ولعل من أكثر المواضيع التي باتت تثير جدلا واسعا وتشهد مقاومات ومحاولات لمنع استفحالها في مجتمعاتنا هي الجندر أو النوع الاجتماعي الذي أصبح يروج له في البلدان العربية.
"الجندر هي كلمة انجليزية من أصل لاتيني، ولكن اسْتُخدم في عدة معاني أخرى بينها قاسم مشترك؛ وهو رفض تجذر الوضع الأنثوي والوضع الذكوري؛ أي ليس هناك صفة حتمية اسمها الأنوثة، وليس هناك صفة حتمية اسمها الذكورة، وتوضيح ذلك عندما نراجع موسوعة ستانفورد الفلسفية نجد أنها تفرق بين الجنس والجندر، الجنس هي صفة يكتسبها الإنسان من عامل بيولوجي؛ أي أن صفة الأنوثة أو صفة الذكورة تكتسب من خلال الهرمونات ومن خلال الأعضاء التناسلية والجينات، إذن الجنس صفة ثابتة يكتسبها الإنسان من عوامل بيولوجية ترجع إلى الجينات أو الهرمونات أو الأعضاء التناسلية، بينما الجندر صفة وهوية يكتسبها الإنسان من عوامل اجتماعية كموقع هذا الإنسان في الأسرة، ودوره الاجتماعي، سلوكه، هويته الرسمية والقانونية، كل هذه العوامل تحدد هويته أنه رجل أو امرأة، إذن ليس هناك ملازمة بين الطبيعة التكوينية والطبيعة الاجتماعية، لا ملازمة ولا سببيه، قد يكون هو بطبيعته التكوينية أنثى لكنه يحمل هوية الرجل، وقد يكون بطبيعته التكوينية ذكر لكنه يحمل هوية الأنثى، يكتسب كل من الجنسين جندراً يتناسب مع موقعه الاجتماعي، ويتناسب مع سلوكه، ويتناسب مع هويته القانونية أو الرسمية، لذلك عندما نرجع إلى الموسوعة البريطانية نرى أنها تقول أن الجندر هو شعور كلٍ بالذكورة أو الأنوثة لا أنه ذكر أو أنثى بل بما يشعر، شعور كل من الطرفين بهوية معينة نتيجة العوامل النفسية والعوامل الاجتماعية، لذلك الحركة الجندرية أصرت على التغيير وإلغاء الأدوار مما يعني أنه من الممكن للرجل أن يقوم بدور الأم، ويمكن للأنثى أن تقوم بدور الأب، ولا مائزة بينهما من حيث الأدوار."[1]
أما منظمة الصحة العالمية WHO يشير النوع الاجتماعي (الجندر) إلى خصائص النساء والرجال والفتيات والفتيان التي يتم بناؤها اجتماعيا. وهذا يشمل المعايير والسلوكيات والأدوار المرتبطة بكونك امرأة أو رجلا أو فتاة أو فتى، كبناء اجتماعي، يختلف النوع الاجتماعي من مجتمع إلى آخر ويمكن أن يتغير بمرور الوقت.
أما تعريف صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة UNIFEM بأنّه: «الأدوار المحددة اجتماعيًا لكل من "الذكر والانثى، وهذه الأدوار التي تكتسب بالتعليم تتغير بمرور الزمن وتتباين تباينا شاسعًا داخل الثقافة الواحدة، ومن ثقافة إلى أخرى.
يقول المروجون للجندر أن كلمة GENDER مشتقة من أصل يوناني أو لاتيني إشارة إلى قدمها، والحقيقة أنها ولو كانت مشتقة من اللفظ GENUS وتعني الجنس أو صنف أو نوع (ذكر أو انثى فقط) ولم تكن تحمل معنى الفصل بين ما هو بيولوجي واجتماعي.. وبعيدا عن الخوض في المعنى اللغوي واشتقاقات المصطلح أن استخدام المصطلح اليوم بدلالته المتعارفة اليوم استنادا إلى المنظمات واتفاقات عالمية لا بما كان عليه قبل آلاف السنين! واستخدام كلمة (جندر) بالإنكليزية منذ القرن الرابع عشر بمعنى الجنس للإشارة إلى حالة كونه ذكرا أو انثى حتى حصل التغيير في منتصف القرن العشرين استخدمت للإشارة إلى الحالة الاجتماعية القائمة على التنشئة والتلقين بأنَّ هذا ذكر وتلك انثى، وفي النصف الأخير من القرن العشرين استخدمت بديلاً عن الجنس إلا في بعض المواضع.
ايدولوجية الجندر
لا يقتصر موضوع الجندر على المصطلح وإنما يستند ذلك المصطلح إلى فكرة أو ايدولوجية اجتماعية (وهي ليست حقيقة علمية تعتمد على أدلة علمية وتجريبية) تعتبر نتاج ما مرّت به الحركة النسوية عبر التاريخ من تحولات في قضية المرأة. تعتمد على عدة مبادئ منها الفصل التام بين الجنس البيولوجي والنوع الاجتماعي، بحيث أن الجنس البيولوجي لا يحدد النوع الاجتماعي بما فيه من صفات وأدوار والمبدأ الآخر أن النوع الاجتماعي غير ثابت ويمكن تغييره وتبديله.. ونتيجة لذلك فإن الانسان يولد محايد جندريا في الأصل"[2]
وبعيدا عن عالم المصطلحات فقد بات الأمر خطرا ومقززا لدرجة تشاهد بأن رجلا فجأة بدء يشعر بأنه كلب أو قطة أو أصلا لا ينتمي إلى الجنس البشري فيحول نفسه ويلغي هويته الذكورية تماما!
وهذا ما تروج له الجندرة بالفعل وهو التجرد من الانسانية أو الهوية الثابتة التي منحها الله تعالى للإنسان بحيث تحفظ كرامته، ومع بالغ الأسف نجد بأن هذه الفكرة باتت رائجة جدا في الغرب لدرجة أصبح الأطفال يخضعون إلى تعليم هذه المفاهيم وترسيخها بحيث يلغون عندهم إحساس الفحولة أو الأنوثة ويزرعون في دواخلهم الشكوك والظنون الباطلة، وشيئا فشيئا وبطرق خبيثة يحاول الغرب تصدير هذا التيار الفكري الفاسد إلى الدول العربية وبالأخص الإسلامية منها وضرب القانون الإلهي الذي ينص على وجود جنسين فقط وهما الذكر والأنثى بقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"[3].
"المرأة مربية والرجل يقود الأسرة فهذه هي الأدوار الطبيعية المعروفة، فلو فرضنا أن هذه الأدوار هي أدوار اجتماعية؛ أي أدوار لا ترجع لطبيعة الإنسان، وإنما هي أدوار فرضتها الثقافة التاريخية وفرضتها عملية اجتماعية بعيدة المدى وإلا ما كان الناس هكذا، لو فرضنا ذلك لا يمكن تجاهل الاختلافات الفسيولوجية بين الرجل والمرأة، المرأة تملك الاستعداد للدورة الشهرية وللحمل والولادة والإرضاع، وهي ليست تغيرات جسمية وليست تغيرات فسيولوجية فقط، بل تفرض هذه الاستعدادات تفاعلات نفسية وتفاعلات فكرية تفرزها عن الرجل شاءت أم أبت.
فهذه الاختلافات الفسيولوجية بين الجنسين تفرض حتماً اختلافات سيكولوجية بينهما، أي تفرض اختلافات نفسية وتفرض اختلافات فكرية شاء كل من الجنسين أم أبى، هو أمر تفرضه الطبيعة ويفرضه الواقع، لذلك لا يمكن التغاضي عن الاختلافات الفسيولوجية والسيكولوجية بين الطرفين، بل يؤكد علم النفس الاجتماعي أن النظر العاطفي من قبل الرجل للمرأة يختلف عن النظر العاطفي من قبل المرأة للرجل، النظر العاطفي من الرجل للمرأة هو الحاجة إلى السكينة والاستقرار، والنظر العاطفي من المرأة للرجل هو حاجتها للدفء والحماية والحضن الذي يحتضنها، كل منهما تختلف عاطفته تجاه الآخر، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾[4].
بيتر سون عالم نفس غربي مشهور وله صيت واسع يقول: لا يمكن إلغاء الفروق الجوهرية بين الرجل والمرأة والبناء على قانون المساواة بينهما، بل لابد من التفصيل والتدقيق في هذه المسألة ولا يمكن إلغاء هذه الفروق لحساب شيء آخر، وهذه الفروق بين الرجل والمرأة ليست فروق تفضيلية؛ بمعنى أن الرجل أفضل من المرأة أو أن المرأة أفضل من الرجل، بل إن هذه الفروق جعلت العلاقة علاقة تكامل، وكل منهما يكمل الآخر، ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾[5] كل يكمل الآخر تماماً كما في اختلاف البشر في القدرات، هناك ذكي وهناك أذكى، هناك شخص لديه قدرة عقلية، وهناك شخص لديه قدرة بدنية وهناك شخص لديه قدرة فنية، وهناك شخص لديه قدرة رياضية، وهناك شخص لديه قدرة مهنية، كلها قدرات وزعها الله بين البشر، فهل اختلاف القدرات تفضيل؟ أبداً بل إن اختلاف القدرات لكي يتكامل البشر بعضهم ببعض ولذلك قال تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾.
ليستفيد بعضكم من بعض، لتتلقح تجاربكم ومعارفكم ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ تماماً مثل أعضاء البدن، البصر والسمع والشم كل حاسة لها دور معين وتحتاج إلى الحاسة الأخرى، والإنسان لا يتكامل إلا بحواسه الخمس مع أن لكل حاسة قدرة متميزة، كذلك المجتمع لا يتكامل إلا بقدرات وطاقات متنوعة ذكر وأنثى، لذلك يقول القرآن الكريم وهو يتحدث عن تمايز الأدوار: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾[6]فاختلاف الأدوار واختلاف المواقع هو نتيجة اختلاف القدرات، إذن لا يمكن التغاضي عن هذا الاختلاف".
اضافةتعليق
التعليقات