قطعة حجر صغيرة حرّكَت الماء الآسن، اهتزت بحيرة القلب الملوّث وتشكلت دوائر تتبع الواحدة الاخرى، ليهطل بعدها الماء العذب على البحيرة السوداء وتتحول الى مياه نقية..
تلك الحجرة لم تكن سوى كلمات معدودة! أما الدوائر المرسومة كانت علامات استفهام وتعجب كبيرة.. وأمطار الخير هي رحمة الله تهطل على من يستحق وعلى من يملك قابلية التغيّر..
تلوّى (بشر) تحت ثقل جملة قصيرة، وستائر قلب تلك (الجارية) شُرِعت بعد أن كانت مسدلة لزمن طويل بعد أن كُشف لها الغطاء لثواني..
لله درك يابشر ماذا سمعت حتى نسيت أن تنتعل حذاءك وأنت تعدو خلف إمامك! وأنتِ ياجارية ماذا رأيتِ حتى هويتِ ساجدة، ألم يتآكلك الخوف من الطاغية وعقابه وأنت تقصينَ عليه سبب سجودك لإله موسى بعد أن بطل كيد سحرة فرعون!.
أما قبل..
في أزقّة بغداد مرّ السيّد أمام بيت بشر الذي تصدح فيه أصوات اللهو والطرب والغناء الماجن، فصادف أن فتحت امرأة باب الدار لإلقاء بعض الفضلات، وحين رمت بها في الطريق سألها السيد قائلا: ياجارية، هل صاحب هذه الدار حر أم عبد؟!
فأجابته الجارية وهي مستغربة سؤاله هذا فالجميع يعرف صاحب الدار فهو أشهر من نار على علم، وقالت: بل هو حر! فأجابها: صدقت، لو كان عبداً لخاف من مولاه!.
عادت المرأة الى الدار وكان بشر جالساً الى مائدة الخمر، فسألها: مالذي أبطأك؟
فنقلت له مادار بينها وبين السيد..
وعندما سمع تلك الجملة، اهتز ضميره هزاً عنيفاً وسأل جاريته عن الوجهة التي سلكها السيد، فانطلق يعدو خلفه ناسيا حذاءه!.
قصتنا الاخرى كانت بين قضبان السجن المظلم، فبعد سنوات.. سُجن السيّد، وأنفذ السجان الى العبد الصالح جارية جميلة علّها تغري ذاك الأمين، بعد مدة أنفذ الطاغية الخادم ليستفحص حالها فرآها ساجدة لربها لاترفع رأسها تقول: قدوس سبحانك سبحانك..
فظن الطاغية أنها سُحرت من السيد كما سَحَر ذاك الراهب الكثير بكلماته القليلة!
أتى بها وهي ترعد شاخصة نحو السماء بصرها فقال: ماشأنك، قالت: سألت السيد عن حوائجه لأقضيها، فقال السيد وهو يشير بيديه الى الجهة الاخرى: فما بال هؤلاء؟ فالتفتت فإذا حجب تنفتح أمامي فرأيت روضة مزهرة لا أبلغ آخرها من أولها بنظري، ولا أولها من آخرها، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج، وعليها وصفاء ووصايف لم أر مثل وجوههم حسنا، ولامثل لباسهم لباسا، عليهم الحرير الاخضر، والاكاليل والدر والياقوت، وفي أيديهم الاباريق والمناديل وكل الطعام، فخررت ساجدة حتى أقامني الخادم فرأيت نفسي حيث كنت..
فقُبض على تلك الجارية وسجنت حتى لاتحدّث الناس بما رأت، فما زالت كذلك حتى ماتت، وذلك قبل موت العبد الصالح بأيام يسيرة!.
أما بعد..
ياترى كم منّا عاش تلك اللحظات العائمة القليلة التي تسبق القرار.. قرار التغيّر والانقلاب، كم منّا اقترب من نقطة التحول ثمّ أقفل راجعاً مسوفّاً الأمر الى المستقبل فالنفس "طويلة الامل كثيرة العلل"..
بشر أدرك الامام الكاظم وتاب بين يديه واعتذر منه وبكى ندماً، ومن ساعتها أصبح عبداً، عبداً لله فقط، بعد أن اشتراه الامام بسعة صدره فهو القائل صلوات الله عليه: "عجبت لمن يشتري العبيد بماله فيعتقهم، كيف لايشتري الاحرار بحسن خلقه". واشتهر بين الناس فيما بعد بزهده وعلمه وعبادته، وبقي طول عمره حافيا حاسرا، فقيل له لمَ لاتلبس نعلاً، قال: لأني ماصالحني مولاي إلا وأنا حافِ فلا أزول عن هذه الحالة حتى الممات. وبني له ضريح يُزار الى الآن في بغداد.
وتلك الجارية التي لانعرف إسمها _فالتاريخ بطبيعة الحال يظلم المرأة في كل زمان_ أقبلت في بقية حياتها في الصلاة، بعد أن دخلت في أمانة موسى بن جعفر، فإذا سؤلت عن ذلك قالت: هكذا رأيت العبد الصالح..
نعم، لكل شيء باب، وإن رمتَ التغيُّر فعليك بباب الحوائج موسى بن جعفر، وبعد أن تقبّل أعتابه دُر حول ضريحه حقاً، ولاتدر حول نفسك..
ومثلما أدرك الامام الكاظم الخمّار والغانية في حين خذل الامام ووشى به من الاقربين، قد نظن كذلك نحن أن مهدينا يريد قلب طفل لم يدنسّه علم المادة والناس، من يدري، قد يُدرك التائب صاحب الامر ولايُدركه العابد الزاهد، فنماذج من رزق بحسن العاقبة ومن نزل بنفسه الى الحضيض فاستحق سوء العاقبة كثيرة، وقصص مشاهدة ولقاء الامام المهدي كثيرة ايضا، تلك التي تفاجئنا ببعض الحوادث والمواقف التي يرفض فيها كبار العلماء أوامر الامام وطلباته الصعبة على نفوسهم وسقطوا نتيجة ذلك في أسهل الامتحانات حينا وفي أشدّها أحيانا أخرى، في حين قد يجيبه إنسان عادي لكنه مخلص ويتبعه على وجه السرعة..
إذن فهناك دوماً أمل، اختر لنفسك قدرا جديدا، جدد العهد مع يوسف زمانك، شدّ رحالك والتحق بقافلة العزيز، ولكن تذكر أنّ في موكب عشّاقه حفاة؛ قد تركوا الدنيا ومافيها..
اضافةتعليق
التعليقات