إن القرآن الكريم لما ذكر حادثة أمر السجود لأبينا آدم (عليه السلام)، ذكرها بموارد عدة، وفي سور مختلفة -وكما يبدو- أن هذا التعدد إنما هو لتعدد جوانب القصة، وكما يُعبر صاحب تفسير الأمثل بقوله: [إِنَّ لهذه الحادثة المهمّة عدَّة أبعاد، وفي كل مرَّة تذكر فيها يتجلى واحد مِن أبعادها](١)، فبلا شك هي ليست مسألة تكرار للحدث، ففي كل مورد هناك تذكرة وموعظة لأولي الألباب، وإن كان الهدف المراد منا بلوغه منها واحد.
إذ نجد أن الحادثة ذُكرت في موارد سبع في القرآن الكريم، هي:
١. سورة البقرة، بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ(٣٤)﴾.
٢. سورة الأعراف، بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ(١١)﴾.
٣. سورة الحجر، بقوله تعالى: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ○ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾(٣٠-٣١).
٤. سورة الإسراء، بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ(٦١)﴾.
٥. سورة الكهف، بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ(٥٠)﴾.
٦. سورة طه، بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ(١١٦)﴾.
٧. سورة ص، بقوله تعالى: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ(٧٤)﴾.
وعند التأمل نجد إن من أهم ما يمكن استلهامه من تعدد الموارد هي معرفة الناجون وسُبل النجاة كي لا نقع بما وقع به إبليس، أو نقع في مكائده، إذ إن الآيات أشارت إلى إن هناك صنفان من الخلق، هما:
الصنف الأول: الناجون، قادة حزب الله من عباد الله الكمل المعصومين المخلصين الذين لا سلطة لإبليس عليهم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا﴾(الاسراء: ٦٥)، وقوله تعالى: ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾(الحجر:٤٠)، الهداة، ويتفرع من هذا الصنف الذين اهتدوا بهديهم وكانوا بحزبهم، كما في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(البقرة:٣٨).
الصنف الثاني: ابليس وأتباع حزبه الهالكون ممن مصيرهم الهلاك والعذاب المقيم.
وقد ذكر في كل مورد ما هو السُبيل للكون بالصنف الناجي، ففي أول ثلاث سورة ذُكرت بها الحادثة كان السبيل هو[التقوى] -وكما يبدو- أتت بمعاني متعددة:
أولاً: سورة البقرة
هنا ذكرت التقوى بمعناها العبودي، قال تعالى: ﴿وَإِيَّٰىَ فَٱتَّقُونِ﴾ (البقرة:٤١)، إذ كان الخطاب موجه لبني اسرائيل، كما في قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ فهم نهوا عن الكفر بأنعم الله تعالى كما فعل إبليس.
فتعالى وصفه: ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾(البقرة:٣٤)، أي إنه لم يحصل لديه فعل الكفر عندما أمر بإتباع وطاعة خليفة الله، بل جذور الكفر كانت راسخة في وجوده، والآن هي فقط ظهرت، وهكذا بني اسرائيل إذ نهتهم الآية بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾(البقرة:٤١)، فإبليس كان عابداً مطيعاً، لكن ما إن أتى أمر الله بطاعة خليفة الله ظهر عصيانه وزيف عبوديته.
والكفران بالنعم كبيرها وصغيرها هو منهي عنه، فمفردة(به)- كما تذكر التفاسير- إشارة للنعم العظمى المتمثلة بالنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) والأئمة من بعده؛ فعن إمامنا الباقر(عليه السلام): [النعمة الظاهرة النبي(صلى الله عليه وآله) وما جاء به النبي من معرفة الله عز وجل وتوحيده، وأما النعمة الباطنة فولايتنا أهل البيت وعقد مودتنا](٢).
بالنتيجة هو خطاب موجه لنا أيضا، والمطلوب هو أن نحقق العبودية الحقيقية، فنكون مستعدين لقبول أي أمر إلهي، وفي كل الأحوال.
ثانياً: سورة الأعراف
كان مفهوم التقوى بمعناها الوقائي/الرقابي، قال تعالى: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾(الأعراف:٢٦)، أي المطلوب هو أن نتحصن بلباس التقوى ونحذر من أن تمسنا فتن هذا العدو الذي لا نراه، ولكن هو يرانا، والذي هو متربص بنا في كل مكان، كما تحذرنا وتنبهنا الآيات بقوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ﴾(الأعراف:٢٧).
وهنا تشكل ولاية حزب الله مصداق للباس التقوى كما نقرأ في تعقيبات صلاة الصبح إذ نقول: [أصبحت اللهم معتصما بذمامك المنيع الذي لا يطاول ولا يحاول،... بلباس سابغة حصينة ولاء أهل بيت نبيك عليهم السلام، محتجبا من كل قاصد لي إلى أذية بجدار حصين الإخلاص في الاعتراف بحقهم، والتمسك بحبلهم، موقنا أن الحق لهم ومعهم وفيهم،...](٣).
ثالثاً: سورة الحجر
أتت هنا التقوى بمعناها الولائية بشكل مباشر أي التحصن بولاية ولي الله وإمام المتقين، فعند التأمل في الآيات التالية، نجدها تذكر العاقبة لمن هي؟ بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾(الحجر:٤٥)، فالدخول في ولاية إمام المتقين موجب للحصول على ثمار التقوى والثبات عليها، فإن من لا سلطان لإبليس عليهم من العباد هم ممن اتبع صراط الله تعالى المستقيم، إذ جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُستَقِيمٌ﴾(الحجر:٤١) التي أتت بعد آيات ذكر الأمر الإلهي بالسجود، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: [هو والله علي هو والله علي الميزان والصراط](٤).
ومن اللطائف أن ابليس في هذا المورد توعد بتزيين ما في الأرض لإغواء بني آدم بعد استحقاقه للهبوط، لكن عباد الله الذين لا سلطان له عليهم، تعالى يقول في حقهم:﴿اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾(الحجرات:٧)، والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وصف الإمام علي(عليه السلام) بأنه أعلى مصاديق الإيمان، بقوله: [برز الإيمان كله إلى الكفر كله](٥)، بالنتيجة عباد الله الذين لا سلطان لإبليس عليهم لأن قلوبهم مزينة بولاية إمام المتقين علي(عليه السلام) لن يغويهم ويغريهم تزيين الشيطان أبداً.
رابعاً: سورة الإسراء
السبيل هنا هو العبودية بتحقيق التوكل واستشعار الكفالة الإلهية، قال تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا﴾(الإسراء:٦٥)، فإن الأساليب التي ذكرت في هذا المورد من (الاحتناك، الاستفزاز، والجلبة، وتحشيد جيوشه من الرجالة والخيالة) كلها تؤثر في إيمان الإنسان، ومُبعِد له عن ساحة طاعته سبحانه، بينما العبد المتوكل على الله تعالى والمستكفي بربه لا تخرجه أساليب الاستفزاز والصخب وكثرة قوة العدو من جند إبليس وأعوانه من يقينه، فيرى بأنها قوى لا قيمة لها في قبال معبوده القوي المالك لكل شيء، وهنا أيضا الإرتباط بولي الله وخليفته معز المؤمنين عجل الله تعالى فرجه، موجب للخروج من سلطان إبليس وحزبه.
خامساَ: سورة الكهف
هنا- كما يبدو- أن سبيل النجاة هو البراءة من إبليس وذريته وكل من تبعه من حزبه، فكل من يتولى إبليس هو يتخذه شريك دون الله تعالى، فيخرج من دائرة ولايته وعبودية وطاعة معبوده، بالنتيجة أيضا هذا السبيل يتحقق بالدخول بولاية أولياء الله تعالى.
كما ومن الملفت أن سورة الكهف تذكر نموذج لحقيقة تولي وانتهاج نهج إبليس، وهو صاحب الجنتين، فهو سلك سلوك القياس بالقول بأفضليته، فكفر وكان مصيره كمصير أول من انتهج هذا المنهج، وكثير من أمة النبي (صلى الله عليه وآله)، وقعوا بهذا السلوك، وقاسوا بمقاييسهم من يكون للمسلمين خليفة، وللمؤمنين إمامًا، فخرجوا عن ولاية ولي الله الموصى به!.
سادساً: سورة طه
وهنا سبيل النجاة تمثل بإتباع هدى الله تعالى بتولي أئمة الهدى، قال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ﴾(طه:١٢٣)؛ ليبلغ الهداية وينجو من الضلال الذي عبرت عنه الآية بالعمى، فيصبح ذو بصيرة يرى بها الحقائق والحق، وكذلك سيبلغ السعادة وينجو من الشقاء الذي عبرت عنه الآية بالمعيشة الضنكة، إذ سُئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن المراد من الآية: ﴿ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً﴾؟ قال: "يعني الإعراض عن ولاية أمير المؤمنين](٦).
كما -وكأن- الآية تقول: إن مجرد ذكر هذه الحقيقة في كون إبليس لم يمتثل لأمر الله تعالى برفض ولاية وليه، وما ترتب على ذلك من سوء العاقبة، هو موجب للالتفات وعدم نسيان وجود هذا العدو لكل من هو داخل في ولاية الله سبحانه، وموجب لتحقق الحذر منه وعدم التصديق بوعوده، كما حصل مع أبينا آدم (عليه السلام)، إذ لم يأخذ في بادئ الأمر هذه العداوة على محمل الجد -إن صح التعبير- لما قال له تعالى:﴿يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ﴾(طه:٢١٧)، ولم يأخذ بالتذكير كما تعبر الآية: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾(طه:١١٥)، وقوله: ﴿وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ﴾(طه:٢٢١).
فإن كان باب التوبة قد فتح لأبينا آدم (عليه السلام) وتاب تعالى عليه، إلا إننا لازلنا في ذات الحرب وقد نقع فيما وقع به أبينا، فإن نسينا وكنا من المسرفين -أي تهاونا أو لم نتعامل بجدية مع حقيقة هذا التذكير وخطورته، وكذلك كون أن نعمة باب التوبة المفتوح له وقت ويغلق- فإن أعرضنا عن تذكرة الله تعالى لنا، ونسينا وتمهلنا في الولوج في باب التوبة والعودة؛ لن ينفعنا التَذكر إذا انطوت صحفنا، وانقضت أيامنا التي نعيشها في حياتنا الدنيا، فنكون مصداق لقوله تعالى:﴿قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا○ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىٰ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ ۚ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ﴾ (طه:١٢٦-١٢٧).
سابعاً: سورة ص
تختم هذه السورة سبل النجاة بذكر أصل بلوغ تلك السُبل المتمثل بعدم الإعراض عن ما أتى به النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله)، وذلك بقوله تعالى:﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ○أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾(ص:٦٧-٦٨)، وكتاب الله يقول على لسان نبيه بكونه نذير، قال تعالى: ﴿إِنْ يُوحَىٰ إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾(ص:٧٠)، وكونه ذكر للعالمين، ولم يأتِ بما أتى به من عنده، إنما هو أمر ووحي منزل عليه، وذلك في قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾(ص:٨٦)، بالمقابل في آية أخرى هناك استثناء للأجر المطلوب وهو مودة أهل البيت (عليهم السلام) كما في قوله تعالى:﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾(الشورى:٢٣)؛ فعن ابن عباس قال: [لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم قال: علي وفاطمة وولداها](٧).
بالنتيجة إن تعدد موارد ذكر هذه الحادثة فيها تأكيد على شدة عداوة إبليس لنا، واصراره على أن يجعل مصير بني آدم كمصيره، كما وفيها تأكيد على وجود سُبل ونوافذ إن عرفناها، ودخلنا فيها نجونا ولم يتمكن هذا العدو منا، بما يتناسب مع تعدد نوافذه وأساليبه وخطواته، وأصلها هي الدخول في ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام).
وفيها أيضا اشارة إلى أن المطلوب منا في التعامل مع هذه القصة ليس في معرفة عداوة إبليس أو الحذر منه فقط، بل في القصة آدم وحواء عليهما السلام والملائكة، إذ يتطلب منا أن نتأمل في أحوالهم جميع شخوص الحادثة، ونأخذ الموعظة من طريقة تعاملهم مع الأوامر الالهية ليكون الإنتفاع من هذه التذكرة والمواعظ من جميع رموزها.
_________
اضافةتعليق
التعليقات