بعد مرور عشر سنوات على وفاة بضعة الرسول "صلّى الله عليه وآله"، السيدة الزهراء عليها السلام، لم يفارق حزن الزهراء قلب أمير المؤمنين "عليه السلام"، وقد كُتب لآل الرسول مصير يدعو إلى الدهشة؛ فقد كان بنو هاشم يعيشون مظلومين وهم في ذروة المجد والعظمة.
وعندما عزم أمير المؤمنين الزواج من امرأة أخرى، كانت قضيّة عاشوراء ماثلة أمام ناظريه. فاستدعى أخاه عقيل، الذي كان عارفاً بأنساب العرب وقبائلهم، وقال له: انظر لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوّجها فتلد لي غلاماً فارساً.
بعد مدّة ذكر له عقيل امرأة من بني كلاب تتوفّر فيها هذه الصفات، اسمها "فاطمة بنت حزام بن خالد". وكان كلّ آبائها فرسان. وأمّا من جهة اُمّها فكانت من عائلة معروفة بالشرف والشجاعة. كان اسمُها فاطمة الكلابيّة، ثمّ اشتهرت لاحقاً باسم أمّ البنين. حيث أنجبت أربعة بنين. وكان أوّل مولود زكيّ للسيّدة أمّ البنين هو أبو الفضل العباس "عليه السلام"، وقد أشرقت الدنيا بولادته، وسرت موجات من الفرح والسرور بين أفراد الأسرة العلوية، لقد كان أوّل صوت قد اخترق سمعهُ صوت أبيهِ رائد الإيمان والتقوى في الأرض، ووصيّ الرسول بعد أن أجرى عليه مراسيم الولادة الشرعية فأذّن في أُذنه اليمنى، وأقام في اليسرى.
ارتسمت رسالة الأنبياء في أعماق أبي الفضل، وانطبعت في دخائل ذاته، حتى صارت من أبرز عناصره، فتبنى الدعوة إليها في مستقبل حياته، وتقطّعت أوصاله في سبيلها.
نشأ العبّاس عليه السلام نشأة صالحة كريمة، قلّما يظفر بها إنسان فقد نشأ في ظلال أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الأرض، فغذّاه بعلومه وتقواه، وأشاع في نفسه النزعات الشريفة، والعادات الطيّبة ليكون مثالاً عنه، وأنموذجاً لمثله، كما غرست أمّه في نفسه، جميع صفات الفضيلة والكمال، وغذّته بحبّ الخالق العظيم.
ولازم أبو الفضل أخويه السبطين ريحانتي رسول الله صلىاللهعليه وآله الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة فكان يتلقّى منهما قواعد الفضيلة، وأسس الآداب الرفيعة، وقد لازم بصورة خاصة أخاه أبا الشهداء الإمام الحسين عليه السلام فكان لا يفارقه في حله وترحاله، وقد تأثّر بسلوكه، وانطبعت في قرارة نفسه مُثُله الكريمة وسجاياه الحميدة حتى صار صورة صادقة عنه يحكيه في مثله واتجاهاته، وقد أخلص له الإمام الحسين كأعظم ما يكون الإخلاص وقدّمه على جميع أهل بيته لما رأى منه من الودّ الصادق له حتى فداه بنفسه.
إنّ المكونات التربوية الصالحة التي ظفر بها سيّدنا العبّاس "عليه السلام" قد رفعته إلى مستوى العظماء والمصلحين الذين غيّروا مجرى تاريخ البشرية بما قدّموه لها من التضحيات الهائلة في سبيل قضاياها المصيرية، وانقاذها من ظلمات الذلّ والعبودية.
لقد نشأ أبو الفضل على التضحية والفداء من أجل إعلاء كلمة الحقّ، ورفع رسالة الإسلام الهادفة إلى تحرير إرادة الإنسان، وبناء مجتمع أفضل تسوده العدالة والمحبة، والإيثار، وقد تأثر العباس بهذه المبادئ العظيمة وناضل في سبيلها كأشدّ ما يكون النضال، فقد غرسها في أعماق نفسه، ودخائل ذاته، أبوه الإمام أمير المؤمنين وأخواه الحسن والحسين عليهم السلام، هؤلاء العظام الذين حملوا مشعل الحرية والكرامة، وفتحوا الآفاق المشرقة لجميع شعوب العالم وأُمم الأرض من أجل كرامتهم وحرّيتهم، ومن أجل أن تسود العدالة والقيم الكريمة بين الناس.
تسميته وسنة ولادته:
أفاد بعض المحقّقين أن أبا الفضل العباس عليه السلام وُلد سنة ( ۲٦ ه ) في اليوم الرابع من شهر شعبان.
سمّى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وليده المبارك (بالعباس) وقد استشفّ من وراء الغيب أنه سيكون بطلاً من أبطال الإسلام، وسيكون عبوساً في وجه المنكر والباطل، ومنطلق البسمات في وجه الخير، وكان كما تنبّأ فقد كان عبوساً في ميادين الحروب التي أثارتها القوى المعادية لأهل البيت عليهم السلام، فقد دمّر كتائبها وجندل أبطالها، وخيّم الموت على جميع قطعات الجيش في يوم كربلاء، وقد قال أحد الشعراء في وصف أبو الفضل:
عبست وجوه القوم خوف الموت * والعبّاس فيهـم ضاحــك متبسّم.
وكُنِّي سيّدنا العبّاس عليه السلام، أبو القاسم: لأن له ولداً اسمه (القاسم) وذكر بعض المؤرّخين أنّه استشهد معه يوم الطفّ، والابن الآخر له فضل ومنه استمد كنيته الأشهر. ويقول في ذلك بعض من رثاه:
أبا الفضل يا من أسّس الفضل والإبا * أبى الفضل إلاّ أن تكـــون له أبـــــا.
وطابقت هذه الكنية حقيقة ذاته العظيمة فلو لم يكن له ولد يُسمّى بهذا الاسم، فهو حقّاً أبو الفضل، ومصدره الفياض فقد أفاض في حياته ببرّه وعطائه على القاصدين لنبله وجوده، وبعد شهادته كان موئلاً وملجأً لكل ملهوف، فما استجار به أحد بنيّة صادقة إلاّ كشف الله ما ألمّ به من المحن والبلوى.
ألقابه:
أمّا الألقاب التي تُضفى على الشخص فهي تحكي صفاته النفسية حسنة كانت أو سيّئة، وقد أضيفت على أبي الفضل عليه السلام عدّة ألقاب رفيعة تنمّ عن نزعاته النفسية الطيبة، وما اتصف به من مكارم الأخلاق وهي:
ـ قمر بني هاشم: كان العبّاس عليه السلام في روعة بهائه، آية من آيات الجمال، ولذلك لقّب بقمر بني هاشم، وكان نوراً أضاء بشهادته مبادئ دنيا الإسلام.
ـ السقّاء:
وهو من أجلّ ألقابه، أما السبب في امضاء هذا اللقب الكريم عليه فهو لقيامه بسقاية عطاشى أهل البيت عليهم السلام حينما فرض المجرم ابن مرجانة الحصار على الماء، في واقعة الطف عندما منع الماء عن ذرية رسول الله لتموت عطشاً. وقد قام بطل الإسلام أبو الفضل باقتحام الفرات عدّة مرّات، وسقى عطاشى أهل البيت، ومن كان معهم من الأنصار.
ـ بطل العلقمي: أمّا العلقمي فهو اسم للنهر الذي استشهد على ضفافه أبو الفضل العباس عليه السلام، وكان محاطاً بقوى مكثّفة من قبل ابن مرجانة لمنع ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسيّد شباب أهل الجنّة، ومن كان معه من نساء وأطفال من شرب الماء، وقد استطاع أبو الفضل بعزمه الجبّار، وبطولته النادرة أن يجندل الأبطال، ويهزم أقزام ذلك الجيش المنحطّ، ويحتلّ ذلك النهر، وقد قام بذلك عدّة مرّات، وفي المرّة الأخيرة استشهد على ضفافه ومن ثمّ لُقِّب ببطل العلقمي.
ـ كبش الكتيبة: فقد كان قوّة ضاربة في معسكر الأمام الحسين "عليه السلام"، وصاعقة مرعبة ومدمّرة لجيوش الباطل.
ـ العميد: وهو من الألقاب الجليلة في الجيش التي تُمنح لأبرز الأعضاء في القيادة العسكرية، وقد قُلّد أبو الفضل عليه السلام بهذا الوسام لأنّه كان عميد جيش أخيه أبي عبد الله، وقائد قوّاته المسلّحة في يوم الطفّ.
ـ بطل العلقمي: أمّا العلقمي فهو اسم للنهر الذي استشهد على ضفافه أبو الفضل العباس عليه السلام، وكان محاطاً بقوى مكثّفة من قبل ابن مرجانة لمنع ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسيّد شباب أهل الجنّة، ومن كان معه من نساء وأطفال من شرب الماء، وقد استطاع أبو الفضل بعزمه الجبّار، وبطولته النادرة أن يجندل الأبطال، ويهزم أقزام ذلك الجيش المنحطّ، ويحتلّ ذلك النهر، وقد قام بذلك عدّة مرّات، وفي المرّة الأخيرة استشهد على ضفافه ومن ثمّ لُقِّب ببطل العلقمي.
ـ حامل اللواء: وهو أشرف لواء أنّه لواء أبي الأحرار الإمام الحسين عليه السلام، وقد خصّه به دون أهل بيته وأصحابه، وذلك لما تتوفر فيه من القابليات العسكرية، ويعتبر منح اللواء في ذلك العصر من أهمّ المناصب الحسّاسة في الجيش وقد كان اللواء الذي تقلّده أبو الفضل يرفرف على رأس الإمام الحسين عليه السلام منذ أن خرج من يثرب حتّى انتهى إلى كربلاء، وقد قبضه بيد من حديد، فلم يسقط منه حتى قطعت يداه، وهوى صريعاً بجنب العلقمي.
ـ حامي الظعينة: وإنّما اضفي عليه هذا اللقب الكريم لقيامه بدور مشرّف في رعاية مخدرات النبوة وعقائل الوحي، فقد بذل قصارى جهوده في حمايتهنّ وحراستهنّ وخدمتهنّ، فكان هو الذي يقوم بترحيلهنّ، وانزالهنّ من المحامل طيلة انتقالهنّ من يثرب إلى كربلاء.
ـ باب الحوائج: وهذا من أكثر ألقابه شيوعاً، وانتشاراً بين الناس، فقد آمنوا وأيقنوا أنه ما قصده ذو حاجة بنية خالصة إلاّ قضى الله حاجته، وما قصده مكروب إلاّ كشف الله ما ألمّ به من محن الأيام، وكوارث الزمان.
كان العباس عليه السلام صورة بارعة من صور الجمال، وقد لُقّب بقمر بني هاشم لروعة بهائه، وجمال طلعته، وكان متكامل الجسم قد بدت عليه آثار البطولة والشجاعة، ووصفه الرواة بأنه كان وسيماً جميلاً، يركب الفرس المطهم ورجلاه يخطان في الأرض.
واستوعب حب العباس قلب أمّه الزكّية، فكان عندها أعزّ من الحياة، وكانت تخاف عليه، وتخشى من أعين الحسّاد من أن تصيبه بأذى أو مكروه.
مع أبيه:
كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يرعى ولده أبا الفضل في طفولته، ويعنى به كأشدّ ما تكون العناية، وقد توسّم فيه أنه سيكون بطلاً من أبطال الإسلام، وسيسجّل للمسلمين صفحات مشرقة من العزّة والكرامة. وقد احتلّ عواطفه وقلبه، ويقول المؤرّخون: إنّه أجلسه في حجره فشمّر العبّاس عن ساعديه، فجعل الإمام يقبّلهما، وهو غارق في البكاء، فبهرت أمّ البنين، وراحت تقول للإمام: ما يبكيك؟. فأجابها الإمام بصوت خافت حزين النبرات:
" نظرت إلى هذين الكفّين، وتذكّرت ما يجري عليهما.."
وسارعت أمّ البنين بلهفة قائلة:
" ماذا يجري عليهما ياوصي الرسول".. فأجابها الإمام بنبرات مليئة بالأسى والحزن قائلاً: "إنّهما يقطعان من الزند.."
وأخبرها الإمام عليه السلام بأنّهما إنّما يقطعان في نصرة الإسلام والذبّ عن أخيه حامي شريعة الله ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله، فأجهشت أمّ البنين في البكاء، وشاركنها من كان معها من النساء لوعتها وحزنها.
وخلدت أمّ البنين إلى الصبر، وحمدت الله تعالى في أن يكون ولدها فداءً لسبط رسول الله صلى الله عليه وآله وريحانته. إنّ أبا الفضل نفحة من رحمات الله، وباب من أبوابه، ووسيلة من وسائله، وله عنده الجاه العظيم، وذلك لجهاده المقدّس في نصرة الإسلام، والذبّ عن أهدافه ومبادئه، وقيامه بنصرة ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله حتى استشهد في سبيله وأتم المهمّة والرسالة المنوطة إليه.
اضافةتعليق
التعليقات