كلنا قناديل في هذه الدنيا، والزيت هو مقدار رصيدنا في رحلة العمر، قد ينفد الزيت يوماً ومهما اشتدّت قوّة القنديل قد يُكسر على حين غرّة فينسكب زيتنا قبل أوانه، فيا حبّذا لو نأخذ منه قطرات ونكتب به كلمات من نور على عنوان بيتنا الجديد علّها تضيئ الطريق لأحدهم!.
شئنا أم أبينا، ذات يوم، غدا أو بعد غد؛ سواء كنّا من علية القوم أو صغارها، سنترك ظاهر الأرض لنسكن باطنها ويوارى جسدنا التراب، فمنه خُلقنا وإليه نعود، ولن يبقى من معالم مسكننا الجديد سوى شاهدة قبر خُطَّ عليها: هذا قبر فلان ابن فلان..
في زحمة الحياة قد لانفكّر في انتقاء ما سيُنقش على شاهدة قبرنا فنحن مستغرقين عن ذلك في الكتابة للآخرين أو قراءة ما كتب الاخرون لنا أو قد نكون أميين لانفقه شيئا من أبجدية الحياة فكيف بأبجدية الموت؟!.
ورغم ذلك وعلى طول التاريخ اهتمّ الكثير بعادة اختيار العبارة التي ستكتب على قبورهم، قد تكون كلمات دينية أو ثقافية أو اجتماعية او فلسفية، وهي قد تعبّر عن شخصية المتوفى أو رؤيته للحياة أو الموت.
وعليه يوصي الكثير قبل موته بهذه النصوص التي تكون ذات نغمة حزينة أو ملأى بالأمل، جديّة أو ساخرة، ساخطة على النفس أو محستبة راضية، جديّة أو فكاهية ساخرة، استنادا على كون الموت قاسي على البعض أو رحيم على اخر، وفي جميعها نأخذ العظة والاعتبار..
(إنّ قبراً يكفيه، ذلك الذي لم يكن العالم بأسره يكفيه)..
قيل ان هذه العبارة قد نقشت على قبر الاسكندر الاكبر، ملك مقدونيا، ومن أشهر القادة العسكريين والفاتحين عبر التاريخ، كان قد أسس احدى اكبر واعظم الامبراطوريات التي عرفها العالم القديم، يعد أحد أنجح القادة العسكريين، إذ لم يحصل أن هُزم في أي معركة خاضها على الاطلاق وانتزع الممالك الواحدة تلو الاخرى.
كان الاسكندر كما يذكر المؤرخون يسعى الى الوصول الى (نهاية العالم والبحر الخارجي الكبير)، وفي نهاية المطاف توفي وله من العمر اثنان وثلاثون سنة! ولم يحصل صاحب الامبراطوريات الممتدة شرقا وغربا سوى على بضعة أمتار تحت الثرى!.
كم يحتاج الكثير من الناس الجشعين ان يتأمل رسالة الاسكندر، أليس كذلك؟!
(هذا ماجناه أبي عليّ وما جنيت على أحد)..
ومن يكون صاحبها غير رهين المحبسين (محبس العمى ومحبس البيت) ملك الشعراء المتشائمين، الساخط على الدنيا ومافيها، أبو العلاء المعري الذي أوصى بكتابة هذه الأبيات على قبره!.
و لو يعلم المعري كم انّ الكلمات تؤثر في النفوس لما ترك هذا الكم من التشاؤم والسوداوية واليأس تراثا له رغم الابداع والعبقرية التي تحويها اشعاره.
ورغم أنه لم يجنِ على أحد كما يقول إلا أنّ خصومه الذين اتهموه بالزندقة اقتلعوا شاهدة قبره وهدّموها، وخصومه ممن لاينامون فيريحون ويستريحون ولا يدعون أحد ينام ومنهم شاعرنا البائس!.
وعلى الرغم من ذلك نُفذّت وصية الشاعر ولكن بعد قرون..
وعلى سبيل الفكاهة؛ قد تكون فعلة هؤلاء الناس قد أعطت الهاماً لأخواننا اليابانيين لجعل شواهد قبور موتاهم الكترونية وفيها رقم سري (كود) لمعرفة المعلومات الاساسية عن الميت وامنياته، فحفظوا بذلك هويات موتاهم من أيدي العبث!.
(هنا ترقد زوجتي حيث ترتاح وأرتاح أنا ايضا)..
هذه الكلمات ليست من باب الطرافة والنكتة بل هي ماكتبه احد الاشخاص على قبر زوجته التي يبدو انها عذبته كثيرا!.
وشتّان مابينها وبين ماكتبه الشاعر محمد الماغوط على قبر زوجته: (هنا ترقد آخر طفلة في التاريخ...).
أو ماكتبه نزار قباني عل قبر زوجته بلقيس: (بلقيس ياعطراً بذاكرتي....).
لو أحسن المحبين بين بعضهم أو أساؤوا ستُنشد على مسامعهم مثل هكذا كلمات في حياتهم وبعدها أيضا!.
وفي الكثير من كتابات شواهد القبور مايعبّر عن حياة الميت أو اهتماماته وانجازاته، فقبر المخترع الكبير أرخميدس تعلوه رسمة لكرة محاطة بأسطوانة وهذه الرسمة هي احدى اكبر انجازاته الرياضية وهي قاعدة الاسطوانة!.
وكذلك فعل احد علماء الفيزياء بحفر معادلة فيزيائية فوق شاهدة قبره الحجرية!.
والبعض ممن لم يأخذ الحياة على محمل الجد، وكأنه اعتبر الموت قشرة موز تزحلق بها، اختار أن يكتب عبارات مثل ماكتبت احداهن: (المتورطة في حبكة درامية..).
أو ماانتقاه ممثل امريكي ساخر: (لاتؤاخذوني ان لم استطع القيام لتحيتكم..).
وهكذا تتعدد وتختلف الأمثلة عن العبارات التي يكتبها الميت أو ذويه على القبر، على تعدد واختلاف المعتقدات والمبادئ والحكم حول الحياة والموت وفي بعضها أحاجي نتسلّى بحلها!..
ولعلّ أجمل ماقد كُتب هو كلمات الامام علي (عليه السلام) والتي قيل أنها كتبت على كفن سليمان المحمدي:
وفدت على الكريم بغير زاد من الحسنات والقلب السليم
وحمل الزاد أقبح من كل شيئ إذا كان الوفود على الكريم
وهذه الأبيات اختارها الكثير من الناس لتُكتب على قبورهم بعد بضع آيات من القرآن الكريم..
وبعد كل ماذكرنا؛ وأنت ماذا تحب أن تكتب على شاهدة قبرك؟!
تساؤل مهم وجميل؟!
مهلاً!!
لنغيّر هذا التساؤل؛ فزيتك لم ينفد بعد وحبرك لم ينضب بعد!!
ماذا تحب أن تكتب على شاهدة حياتك؟!
لعلّ الذين رحلوا عن هذا العالم ونعتقد أنهم نائمين بملأ جفونهم رغبوا بكتابة بضع كلمات فقط: (رب ارجعون.. لعلي أعمل صالحا فيما تركت..).
ماذا لو فكرنا قليلا بالموت ليكون حافزا للعمل أكثر في هذه الحياة، وقد يكون ماتركته بالدنيا هو ذاته ماستقدمه بالآخرة، هو العمل الصالح والعلم النافع والاحسان الى الناس والأخلاق الجميلة والتقوى ووو.... ستكون قد حفرت أعمالك وليس كلماتك على قلوب الناس وصفحات الدهر وليس على شاهدة قبرك فقط.. اشفق على نفسك وتذكر دائما كلمات شاهدة قبر احد الفلاسفة: (أيها المار من هنا.. كما انت الان كنت أنا!)..
اضافةتعليق
التعليقات
العراق2019-08-03
(ما اريد كلشي من الزمن بس ترضه عني ام الحسن)
أما ما يكتب على شاهدة قبري
(ذابت بعشق فاطمة -ع-)
2020-05-05