تغير الأفكار نحو التسامح ليس حالة طارئة بل إنها قدرة النفس على انعاشها وخلاصها من الألم الذي لحق بها من المظالم.. هو قرار ليس بالسهل، ولكن الندم على عدم محاولة التسامح أكبر أثراً عليك من عدم الحصول على فرصة ثانية.
فالتسامح مفهوم انساني خصّ به الله تبارك وتعالى البشر حتى يعيشوا في أُلفَـــة وسلام، والعدل والإنصاف، قال تعالى: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين»، فأمر الله عز وجل بالقسط حتى مع غير المسلمين المسالمين، ومن هنا يظهر لنا أن الاسلام دين تسامح، وأنه دين يجمع الناس، وليس دين التخريب والفساد كما يفعل البعض تحت مسمى الإسلام.
وهو من المبادئ الإسلامية السمحة التي سار على نهجها أهل البيت وقد تجلت المبادئ بالمدرسة السجادية التي كانت تدعو إلى التحاور مع الآخر والتسامح معهُ؛ بغض النظر عن جنسه وانتمائه، وعدم تسقيط الآخر ونبذ الكراهية لأنها لغة الحمقى.
لقد كان الامام عليه السلام ينبذ الخلافات والتعصب على المنهج الإسلامي الذي سار عليه جده رسول الله، وعلي بن أبي طالب "عليه السلام".
حيث قال الإمام السجاد: "لا تعادين أحداً وإن ظننت إنهُ لا يضرك, ولا تزهدُن في صداقة أحد وإن ظننت إنهُ لا ينفعك فإنهُ لا تدري متى تخاف عدوك وحتى ترجو صديقك, وإذا صليت فصلي صلاة مودع".
ويرى كثير من المختصين في علم النفس بأن التسامح يعود بالمنفعة على الذات وصحة الانسان الجسدية.
يقول الكاتب جيرالد ج- جامبولكسي في كتاب له: "التسامح أعظم علاج على الأطلاق". هنالك علاقة بين" الصحة والتسامح".. إذن ما الذي بوسعك أن تبتغيه ثم لا يمنحك اياه التسامح؟.
فأول المتأثرين هو ذاتك كون النفس سوف تشعر بالألم جراء شعورها عدم اعطاءها فرصة ثانية للشخص في العفو.. وذكر أن أجهزتنا المناعية قد تقوى.. ولها علاقة بالتسامح..
فالتسامح له القدرة علي بلورة أجسامنا ويؤثر عليها ويقول المؤلف: بصفتي طبيباً لأكثر من اربعين عاماً يمكنني من أن أذكر أناساً كثيرين قد أصيبوا بأمراض عديدة، من أمراض مزمنة وأورام سرطانية كان سببها مشاكل قد مروا بها! وكان الكثير من تلك الأعراض تزول أو تقل بمجرد أن يتعلموا التسامح.
فالتمسك بالغضب والخوف والألم له تأثير قوي على أجسادنا ويؤثر على أنظمتنا النفسية؛ فهو يؤثر على دورة الدم في أجسادنا وعلى كفاءة الأجهزة المناعية، ويمثل ضغطا على أفكارنا وعقولنا.
فمن الأخطاء التي نرتكبها في حق أنفسنا هي التأجيلات التي لا تنتهي.. لحل الخلافات وتستمر لعدة شهور أو حتى أعوام دون أن يبادر أحد بالتسامح مما يشكل فجوة بين المتخاصمين. فذلك التزمت بالرأي له آثاره السلبية على النفس ويتسبب بالانفصال للمجتمع.
ويرى الكاتب أن سيطرة الأنا العصبية على النفس هي سبب عدم رغبة الكثير في التسامح، فنصيحة الأنا تقول: أننا نقوم بالشيء الصحيح عندما نعاقب الشخص الذي سبب لنا ألماً ويستحق أن لا يشعر بحبنا نحوه. فمن الصعب أن ننجح في التسامح فيما استفحلت الأنا في العقول والأستماع اليها.
وربما أخبرتنا الأنا بأنها هي الطريقة المثلى لمعاقبة أولئك الذين تسببو لنا بأذى، ولكننا نجد أننا نؤذي أنفسنا دائما.. وأن الألم، والخوف، والشك، والمرض غذاء الأنا، فهي تمقت السلام، والحب، والسعادة والصحة.
كيف تنزوي الحضارات وتنطفئ
يذكر غوستاف لوبون في أحد مؤلفاته عن كيفية انزواء الحضارات وإنطفائها قولهُ: ونحن إذا ما بحثنا في الأسباب التي أدت بالتتابع إلى انهيار الأمم, وهي التي حفظ التاريخ لنا خبرها وجدنا إن العامل الأساسي في سقوطها هو تغيير مزاجها النفسي تغييراً نشأ عن انحطاط أخلاقها, ولست أرى أمةً واحدة زالت بفعل انحطاط ذكائها!.
فالأخلاق هي سبب ازدهار الأمم وتقدمها فيما حرص أبناء المجتمع الواحد على تطبيقها والعمل بها. وكذا التسامح من صفات الأخلاق العظيمة التي تجسدت في أخلاق أهل البيت ومنهل الرسالة الذين وحدوا الأمم بالدعوة إلى السلام والوحدة.
وكانوا ينهون الناس عن إظهار عيوب الناس والعداوة لهم، أو كشف حال الناس في معتقداتهم ومذاهبهم وما هو مخفي لديهم من خصوصيات شخصية أو فئوية أو عرقية بحيث تؤدي إلى الفتنة.
ولاشك نحن اليوم في أمس الحاجة إلى نبذ الخلافات والتعصب التي أوجدتها بعض الأنظمة واثمرت زراعتها في بعض النفوس الضعيفة والأفكار المسمومة والهدامة للمجتمع..
وشهدنا ماألم بالوطن من أحداث الطائفية والتهجير والذبح على الهوية مابعد السقوط وكان الخاسر الأكبر هو المواطن، إذ لعبت تلك الأفكار في بعض العقول الغير نيّرة؛ بعد أن روج لها بعض الأحزاب التي دخلت المعترك السياسي. فلولا الانضمام الكبير تحت لواء القيم الاسلامية ومدرسة أهل البيت؛ لأصبحنا اليوم في حرب أهلية طاحنة تتمناها الأبواق الناعقة التي لاتتوانى في نعيقها بين فترة وأخرى.. متى ما ابتغت مصالح الأحزاب السياسية الدنيوية.
فيجب عدم التمسك بنظام عقائدي يجعل من الخوف والصراع والاختلاف والتعاسة من أولى الأولويات. فأغلب التعساء هم الذين لايستطيعون السيطرة على غضبهم ويجدون التسامح مهمة شاقة على أنفسهم..
ويعيشون صراع مع عزة النفس، ويعلقان لسنين طوال مع الألم وفراق الأحبة لالشيء إلا أن كل خَصم ينتظر الآخر في المبادرة بالصلح.
كن واثقا من أن هدفك الوحيد هو راحة البال وليس تغيير أو معاقبة الشخص الآخر.. وقد تكون مبادرة الصلح منك تغير ذلك الانسان الجاحد فلا تندم على المبادرة.
وإن صفحُك عن الشخص الآخر إنما تسامح لنفسك وتحريرها من قيود اللوم والألم.
فهناك أمران لابد أن تختار أحدهما، إما أن تستمع إلى نداء صوت الحب، أو صوت الأنا العصبية. وإن اخترت الأخير الذي ينبع من الخوف والتزمت؛ ستبقى في حالة صراع مع النفس وستفقد الطمأنينة فالتسامح يحررنا من آلام الماضي..
وبما أننا في سياق التسامح في الإسلام، فيجب علينا أن ننبذ الكراهية والخلاف وأن نظهر عظمة هذا الدين وأثره في المجتمع.
اضافةتعليق
التعليقات