عكف على طلب العلم منذ نعومة أظفاره، فتتلمذ على يد والده، وانكبّ في عنفوان شبابه على طلب العلوم بأنواعها، ثمّ صرف همّته إلى تتبع كتب الحديث، والبحث عن أخبار وآثار أئمّة أهل البيت عليهم السّلام وجمعها وتدوينها ودراستها، وقد أبدى رغبة كبيرة في طلب العلم ووصف تلك الفترة بقوله: إني كنت في عنفوان شبابي حريصا على طلب العلوم بأنواعها مولعاً باجتناء فنون المعالي من أفنانها فبفضل الله سبحانه وردت حياضها وأتيت رياضها وعثرت على صحاحها ومراضها حتى ملأت كمّي من ألوان ثمارها واحتوى جيبي على أصناف خيارها وشربت من كل منهل جرعة روية وأخذت من كل بيدر حفنة..
حديثنا اليوم عن علامة اشتهر في تأليف الكتب والتدريس، المعروف بالعلامة المجلسي واسمه هو محمد باقر بن محمد تقي المجلسي أو المجلسي الثاني، (1037 ــ 1110 هـ) من محدثي الشيعة وفقهائهم المعروفين، صاحب المصنفات الكثيرة منها موسوعة «بحار الأنوار» والتي تعدّ أكبر دائرة معارف حديثية شيعية، كما كان له منزلة ونفوذ في البلاط الصفوي.
أمّه بنت صدر الدين محمد عاشوري القمي والتي تنحدر من بيت علم وفضيلة.
ولد العلامة المجلسي في (1037 هـ) بمدينة أصفهان الايرانية، في عصر الدولة الصفوية وبالتحديد في زمن حكومة الشاه عباس الأول، ينتسب جده الأعلى من جهة الأب إلى الحافظ أبي نعيم الأصفهاني؛ الذي يعد من المحدثين والحفّاظ. وجده الملا مقصود علي كان شاعراً وعالماً، جدّته من جهة الأب ابنة كمال الدين الشيخ حسن العاملي الأصفهاني.
أخوته كل من الميرزا عزيز الله والملّا عبد الله؛ الّذين امتدحهم وأثنى عليهم المحدث النوري كثيراً، أشهر أخواته آمنة بيكم؛ والتي كانت من العالمات الفاضلات في عصرها وهي زوجة الملا صالح المازندراني.
علاقته مع أبية محمد تقي المجلسي الأول
روي عن والده الجليل المولى محمد تقي أنّه قال: إنه في بعض الليالي بعد الفراغ من التهجد عرضت لي حالة عرفت منها أني لا أسأل من الله تعالى شيئا حينئذ إلا استجاب لي وكنت أتفكر فيما أسأله عنه تعالى من الأمور الأخروية والدنيوية وإذا بصوت بكاء محمد باقر في المهد فقلت: إلهي بحق محمد وآل محمد (ص) اجعل هذا الطفل مروّج دينك وناشر أحكام سيد رسلك (ص) ووفقه بتوفيقتك التي لا نهاية لها.
وعن صاحب قصص العلماء أنّ المولى محمد تقي أمر زوجته أن لا ترضعه إلا وهي على طهارة.
لماذا سمي بـا لمجلسي؟
قال العلامة المجلسي نقلا عن مرآة الأحوال: إنّه لمّا كان جدّه «مقصود علي» بصيراً ورعاً مروجاً لمذهب الاثني عشرية جامعا للكمال والحسن في المقال وكان له أبيات رائعة بديعة ولحسن محاضرته وجودة مجالسته سمّي بالمجلسي فصار هذا لقباً في هذه الطائفة الجليلة والسلسلة العلية.
وقيل أن ذلك يعود إلى قرية في أصفهان يقال لها «مجلس» كان الشيخ محمد تقي يقطنها فلقّبت الأسرة بها.
من نشاطه في مجال الكتابة والتأليف
1ـ تدريس كتب الحديث، وحلّ مبهمات تلك الكتب.
2ـ إقامة صلاة الجماعة والجمعة، والاهتمام ببناء المساجد، وتعليم الناس تفسير القرآن الكريم.
3ـ إجابته عن استفسارات الناس وحلّ مشكلاتهم عن طريق مخاطبتهم باللغة السلسة التي يفهمونها.
4ـ قيامه بإيضاح ما صعب من الكتب الأربعة المعتمدة عند الشيعة الأمامية، لهذا نجده قد كتب شرحاً لكتابي الكافي والتهذيب.
5ـ ترجمته ونشره علوم أهل البيت (عليهم السلام) باللغة الفارسية؛ لتوسيع اطّلاع المسلمين الشيعة في إيران، سيّما أنّ أكثر الكتب التي تتحدّث عن فكر الشيعة ومعتقداتهم مكتوبة باللغة العربية.
6. قام بإصلاحات مذهبية وتصدّى لمراكز الفساد وبيوت الأصنام ومنع المسكرات.
7. قام بتأليف الكثير من المصنفات في شتى العلوم كـالفقه، والتفسير، والكلام، والحديث، والتاريخ، والأدعية بالإضافة إلى موسوعة بحار الأنوار التي ضمت الكثير من الروايات والمصنف موضوعيا وهي أكبر دائرة معارف شيعية، وقال عبد العزيز الدهلوي من علماء العامة والمؤلفين في الرد على الشيعة الأمامية: لو قيل بأن دين الشيعة دين محمد باقر المجلسي لما جانبوا الحقيقة؛ فهو الذي أضفى على المذهب رونقا وعظمة لم يكن قد نالهما من قبل.
كيف كان يختار الوقت؟
كان رحمه الله يصلي صلاة الجمعة في المسجد الجامع العباسي عشرين سنة بعد وفاة الفاضل الكامل إلى رحمة الله البارئ مولانا محمد باقر السبزواری، وكان بعد أن صلى الجمعة يفسّر القرآن على المنبر.
1. ذكره لله سبحانه: كان محافظاً على جميع أوقاته، موظّفاً تلك الأوقات في سبيل الله وإعلاء كلمته، وكان لسانه دائماً يلهج بذكره جلّ وعلا، وقد نقل عنه السيّد نعمة الله الجزائري حيث قال: «رافقته سنين طويلة، وكان معي ليل نهار، وخلال هذه المدّة الطويلة كان شديد الحذر في أعماله المباحة، فكيف يمكن أن يُتصوّر منه المكروه».
2ـ التزامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: انتشرت في زمانه آراء وأهواء الصوفية في أنحاء إيران، فلم يتحمّل مشاهدة تلك الانحرافات، فأخذ يكشفها للناس عن طريق الخطب والكلمات وتأليف الكتب التي تفضح مثل هذه الانحرافات، وتوضيح النهج الصحيح للإسلام.
وعندما كان(قدس سره) رئيساً لدار السلطنة في أصفهان أيّام حكم الدولة الصفوية، انتشرت كذلك بعض المفاسد الأخلاقية، وكان على رأس تلك المفاسد شرب الخمور، وبفضل حنكته في إدارة الأُمور استطاع أن يقنع السلطان حسين الصفوي بإصدار أمر يقضي بمنع تعاطي الخمور، ومعاقبة كلّ مَن يخالف ذلك.
3. مساعدته للفقراء والمحتاجين: كان يسعى دائماً لرفع احتياجات المؤمنين الفقراء، والدفاع عن حقوقهم المغتصبة من قبل الظالمين، ويسعى بشتّى الطرق لدفع الظلم عنهم، وكان يحاول إيصال أخبار المحتاجين والفقراء إلى أسماع ولاة الأمر؛ لكي يقوموا بتحمّل مسؤولياتهم تجاههم.
وزار مشهد الرضا عليه السلام وتوطّن فيه أيضاً قريباً من سنتين، وكان يدرس ويصنّف فيه، حتى صنّف كتاب الأربعين فيه، وكتاب الرجال في طريقه.
وقال العلامة التنكابني: كان لكتابه «حق اليقين» دور في تشيّع سبعين ألفاً من العامة.
زوجاته وأبناءه: قيل أنّه تزوج من ثلاث نساء، كان ثمرته منهن أربعة من الذكور وخمساً من الإناث.
الرحيل إلى جنة الفردوس
توفي العلامة محمد باقر المجلسي في مدينة أصفهان ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان من سنة 1110 ه. عن عمر ناهز السبعين عاما. ودفن طبقا لوصيته الى جنب المسجد الجامع في أصفهان الى جنب والده، وقد دفن فی تلك القبّة وذلك الموضع الشريف جمع کثير من السادات والفضلاء.
والجدير بالذكر أن منظمة اليونسكو أدرجت اسم العلامة المجلسي في قائمة الشخصيات العلمية.
اضافةتعليق
التعليقات