إنَّ الزيارات والأدعية المأثورة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام هي ليست زيارات تلهم المؤمن الداعي وجدانياً وتكون له زاداً معرفياً فقط بل هي أيضا تغذيه وتجعله من أهل العرفان أي تجعله ينتقل من مرحلة معرفة مقام وصفات وسمات الامام المُزار إلى مقام المُقتَبِس والأخذ مما عرف عن ذلك الامام، فيتشبه به بمقدار همته وسعيه لتحصيل درجة القرب الأسمى، فيكون بذلك مرآة تجلي لصفاته وسماته، وعندئذ يكون قد حقق مفهوم الموالاة والائتمام والانتماء لإمامه المُنصب من قبل الله تعالى عليه، فيكون إلهي الصنع، نوراني الوجود والسلوك.
إنما هذه محاولة بسيطة سيتم تسليط الضوء فيها على فقرتين (كنموذج) من فقرات زيارة آل ياسين التي نزور بها إمامنا الحجة عليه السلام، والتي يُمكن أن نقتبس منها شعاع من نور صفاته (عجل الله تعالى فرجه) بها نختبر صفاتنا، فإن كانت فينا كنا مشمولين بهذه الصناعة الإلهية، وإلا فلنسع أن نكون كذلك ولنبحث ونتأمل في غيرها من العبائر لنتحلى بها.
الفقرة الأولى في زيارة آل ياسين الشريفة التي نقول فيها:
(السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْإِمَامُ الْمَأْمُونُ)..
نجد أن هنا مفردتان (الامام) و(المأمون)، نحن نعلم أن الامام هو القائد الذي يملك سلطة وحاكمية على غيره، ومهما كانت سعة أو ضيق حاكميته إلا إنه يكون مُهابا، يَخافه كل من تحت إمرته، وهنا الخوف يكون نوعان فمتى ما كان القائد متواضعا لين الجانب مع أتباعه، يتعامل معهم كما كان النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) الذي وصِف بأنه "كان بينهم كأحدهم"، يكون خوف المأتمين خوفاً ممدوحاً وهو خوف مهابة وإحترام لا خوف تسلط ورهبة الذي هو النوع الثاني المذموم، وبالتالي تتحقق به هذه العبارة أي يكون إمام ولكن مأمون.
بالنتيجة فإن لكل إنسان منا مرتبة من القيادة سواء على من هم أقل منه في ميدان العمل أو المستوى الثقافي أو المستوى الإجتماعي والإقتصادي، فهذه كلها مصادر قوة تضع الإنسان موضع القيادة والتسلط على من هم أضعف أو أقل منه في هذه الجوانب الحياتية، فالمؤمن حقا هو من كان في حالة أمن وسلام مع نفسه، فكان محل أمان وسلام لغيره، يسلمون ويأمنون جانبه، ويكون محل عطاء يبث كل مضطرب خائف أمان منه وسلام.
والامام الحجة (عليه السلام) له أعلى درجات القيادة والأمان في قلوب مواليه.
لذا فإن الإنسان سيعلم مدى حيازته على هذا الاصطناع الالهي بمقدار وجود حالة الأمان التي يراها منعكسة منه على من يتعامل معهم، ويكونون تحت قيادته.
أما الفقرة الثانية التي نقرأها في الزيارة هي:
(السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْمُقَدَّمُ الْمَأْمُولُ)..
نجد أيضا هنا مفردتين (المقدم) و(المأمول)، فلو أردنا أن نتأمل بشكل عام في هذه العبارة لنستلهم منها نجد أن الإنسان بطبيعة الحال عندما تلم به ملمة، أو يحتاج إلى مساعدة وعون، هو سيفكر بدءاً بشخص واحد لا أكثر، بذلك الشخص الذي لا يتوقع أن يرده بل يكون واثق كل الثقة بأنه سيفرج عنه ويلبي حاجته ويريحه ولو بكلمة طيبة أو بدعوة صادقة، أو بمواساة ترجع له ثقته بنفسه وأمله الذي كاد أن يفقده، فذلك هو "المؤمل" الذي " يُقدم" على كل شخص قد يكون مرجو لكنه يُحتمل أن يرد من يطرق بابه، ويتعذر عن تقديم المعونة ولو كان قادراً.
بطبيعة الحال الأمر يحتاج إلى مجاهدة للنفس وسعة صدر كبيرة ليحوز الإنسان هذه الصفة، ولكن الإنسان المرتبط بإمامه هو يسعى دائما أن يكون كذلك ولو بدرجة من الدرجات، يسعى أن لا يرد أحد على قدر المستطاع، يكون مقصد للأحبة والرفقة.
بل تجد إن أصحاب الأرواح النورانية التي توثقت علاقتهم بإمامهم ينتابهم الحزن وشيء من الألم إذا انقطع عنهم أحد الأحبة أو الصحبة أو أن علامات التردد في طلب المساعدة منه عليهم بدت ظاهرة، أو قدم سؤاله وحاجته لأحد غيره وكأنه يشعر أن هذه الصفة قد سلبت منه، فلم يُعد محل تأميل فَقُدم عليه غيره؛ فهنيئاً لمن كان كذلك فإنه مصطنعاً يحمل رشحة من نور صفات وأفعال إمامه عجل الله تعالى فرجه.
اضافةتعليق
التعليقات