باب: اسلاميات
الوسوم: الامام الحسين، عاشوراء، الشيعة، اهل البيت
شهر الحسين.. ذكرى كسوف شمس البشرية
سماح شنيف كريم
اللهُ يا شهرَ المحرَّمِ ما جرى فيه على آلِ النبيِّ الأنــــــــــــــــــــــــــزع
اللهُ من شهر أطلَّ على الورى بمصائب شيَّبن روسَ الرضَّعِ
شهرٌ لقد فُجع النبيُّ محمَّدٌ فيه وأيُّ موحِّد لم يُفْجَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــعِ
شهرٌ به نزل الحسينُ بكربلا في خيرِ صحب كالبدورِ اللُّمَّعِ
لَكِنَّمَا البَارِي أَحَبَّ لِقَاءَهُم فَغَدَوا على البَوْغَا بِأَكرَمِ مَصْـــــــــرَعِ
فتلألأت منها الربوعُ بنورِه وعلت على هامِ السماكِ الأرفــــــــعِ
وَبَقَى وَحِيدَاً بَعْدَهُمْ سِبطُ الهُدَى يَنعاهُمُ أَسَفَاً بِأَشرَفِ مَدْمَـــــــع..
عندما أقول الحسين أذهب في مخيلتي نحو ذلك اليوم الذي كانت فيه خيم محروقة، وبكاء أطفال، وسبي نساء، ورجال قتلوا، وعويل نساء، ومطر السماء دما، والناقة الهزل، ومصيبة ما أعظمها جرت على ال بيت الحسين (عليه السلام).
واليوم مقبلون على هذا الشهر الحزين الذي له حرارة في قلب كل مؤمن ومؤمنة، وكبار السادة والمشايخ يندبون الحسين (عليه السلام) لوعة في قلوبنا تشعل نيرانها ولهيب الخيام وفرار اليتامى والأطفال غمرني حزن شديد، بل أشد من ذلك والآلام التي أقوى من كل شيء وأجهشت بالبكاء بصوت عالي لشدة المصيبة وعظمتها، ومررت إلى مخيلتي من ناحية ثانية، قد أتى شهر الحسين (عليه السلام) ذكرى كسوف شمس البشرية، مصيبة أبكت السماء وسكانها قبل أن تبكي الأرض ومن يعمرها، فالمصيبة عظمى والخطب جلل، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون.. فلتعد العيون للبكاء والنحيب، ولتعد الصدور للطم والأنين.
وسبحان الله كيف أن شهر المحرم بهذه المظاهر الحزينة صار شهراً يحيي النفوس، بنشر سواده الذي يحيي ميت البلاد، وبدموعه وأناته وآهاته التي تحيي النفوس والقلوب، فسبحان الله ما رأينا سواد وكآبة وحزنا تخفي في باطنها حياة وروح وقيام ونهضة كحزن الحسين (عليه السلام).
فالسلام عليك يا ثار الله وإبن ثاره والوتر الموتور، السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى اصحاب الحسين وعلى اولاد الحسين.
عن الرضا (عليه السلام): ”كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكا وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه ويقول هو اليوم الذي قتل فيه الحسين (عليه السلام).
ومع إطلالة شهر محرّم الحرام تتجدَّد الجاذبية الخاصة للإمام أبي عبد اللَّه الحسين ( عليه السلام) لتأتي بالناس من كل حدب وصوب ولتمتلئ المجالس العاشورائية بشكل لا تعهده مناسبات أخرى. وهذا ما يثقل المسؤولية على كل منا في الاستفادة من هذا الموسم المبارك.
وبشكل خاص حينما نعلم أن هذه الجذبة الروحية التي أتت بهؤلاء الناس الى هذه المجالس ليست شيئا من صنع الإنسان، بل هو فعل إلهي، فالله تعالى هو من جعل في قلب المؤمن هذه الجذوة التي تشتعل، كما ان الله تعالى اكرمنا بشهر رمضان، وجعل له أجواءه الخاصة من ” أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم عبادة ”، كذلك هو الذي جعل حرارة للحسين (عليه السلام) في القلوب بحيث لا يرى المرء سبيلا لابرادها إلا بالتقرب من مجالس ذكر الحسين وآل الحسين (عليه السلام).
وكأن هناك رحمة الهية، وتسيير إلهي للأفكار والمشاعر من أجل تفعيل الانسانية حتى تتحرك بإتجاه سيد الشهداء، وحينما يقول الامام (عليه السلام): ” نفس المهموم لنا تسبيح ” فما أعجب الشبه بين هذه الأنفاس وتلك الأنفاس، وهذه العبادة وتلك العبادة. ”
نحن نعلم أن الله تعالى يريد من الإنسان أمرين: روحا عالمة، وعاملة، كما يمدح المؤمنين (الذين آمنوا وعملوا الصالحات). والروح العالمة بالله تتألق في معرفة الله ومحبته، والتوله إليه ومعرفته، لذا أنعم علينا بآل العصمة والطهارة وهم نماذج تجسد اسماءه وصفاته، وجعل نوره ” الله نور السموات والأرض” ”في بيوت إذن الله أن ترفع ويذكر فيها إسمه”، بحيث يرى الناس أسماءه تعالى وصفاته من خلالهم صلوات الله عليهم يرون فيهم قمة الفضائل والكمال، فيحبونهم وينجذبون إليهم، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): “إن الله تبارك وتعالى أطلع إلى الأرض فاختارنا وأختار لنا شيعة ينصروننا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا أولئك منا وإلينا.
وأما الروح العاملة فهي تلك التي فهمت مسئوليتها وان عليها حمل الأمانة الإلهية التي عجزت عن حملها السموات والأرضين والجبال، فهي دائمة التفكير لماذا خلقت وما هي مسؤولية الخلق وماذا يمكن أن تفعل لتؤدي هذه المسؤولية.
وسبحان الله كيف أن هذه النعمة الإلهية التي تتجسد بحزن شهر المحرم تعين المؤمنين على القيام بهذين الدورين، فهي من جهة تلهب القلب بحرارة وعاطفة حزن إلهي رفع الله قدره بحيث جعله ثأره المرتقب على يد وليه صاحب العصر والزمان، وهي حرارة وعاطفة جياشة تكون بدرجة زلزال يرفع عنه ما ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
ثم يوجه الإمام السجاد (عليه السلام) إلى كيفية الإستفادة الروحية النموذجية من الحزن على سيد الشهداء فيقول لأبن شبيب: " يا إبن شبيب إن كنت باكيا لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب (ع) فإنه ذبح كما يذبح الكبش وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلا ما لهم في الأرض شبيه ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله".
أن كنت باكيا فابك الحسين: تعني بعنوان واضح (اوقف عواطفك للحسين ولهموم الحسين) فان عواطفك ودموعك أغلى من أن تذرف لأي سبب أو موضوع، إن كنت باكيا فابك قضية مهمة شغلت قلب رسول الله وآل بيت النبوة، وجعله الله ثأره العظيم، هو الموضوع الأهم الذي يفترض أن يستحوذ على قلبك، بحيث لا يحترق قلبك بالحزن إلا له، والأحزان المتفرعة منه.
وبعدها استيقظت من مخيلتي وقلت أنها حقيقة أم من وحي خيالي، وكان البكاء يغمرني وعيناي اصبحت حمراء وجدتها ووجهي مخطوف لونه، فقمت أتأكد من خيالي والحقيقة فتصفحت كتاب عنوانه: ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ونهضته للإسلام، وأكملت القراءة وتمعنت في فحواها فوجدت فيها حقائق ومنها.. ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) قد تمخضت وكشفت عن جانبين مهمين هما:
1ـ الجانب العاطفي للثورة.
وهي الثورة الوحيدة في العالم، التي لو تسنّى لكل فرد مهما كان معتقده وفكرته أن يقرأ مسرحيتها بكل أبعادها وتفاصيلها، لما تمكّن من أن يملك دمعته وعبرته. وكما هو المعروف الآن في البلاد غير الإسلامية كالهند وبعض الدول في أفريقيا حيث يقرأ بعض أبنائها ملحمة واقعة الطف في كربلاء، فإنهم لا يملكون إلاّ أن يجهشوا بالبكاء، وقد يؤدي أحياناً إلى ضرب الصدور لا شعورياً، لأنها مأساة أليمة تتصدع القلوب لهولها ومصابها.
وذلك كما وصفها المؤرخ الانكليزي الشهير جيبون بقوله: «إن مأساة الحسين المروّعة، بالرغم من تقادم عهدها، وتباين موطنها، لابدّ أن تثير العطف والحنان في نفس أقل القرّاء إحساساً وأقساهم قلباً» (تاريخ العرب، السيد مير علي).
وأكثر من هذا، إنه قد روي: إنّ الذين قاتلوا رجال الثورة لم يملكوا أنفسهم من البكاء، فهذا (عمر بن سعد) قائد الجيش الأموي في كربلاء، يبكي عندما نادته زينب بنت علي (عليها السلام) قائلة له: «يابن سعد! أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ فصرف وجهه عنها ودموعه تسيل على لحيته (انظر الكامل في التاريخ، ابن الأثير 3: 295، تاريخ الطبري 4: 245).
وقيل أيضاً: إنّ الأعداء بعد قتل الحسين (عليه السلام)، هجموا على عياله يسلبونهم وهم يبكون. فجاء رجل إلى فاطمة بنت الحسين وأراد سلبها وهو يبكي، فقالت له: لماذا تسلبني إذن؟
فقال لها: أخاف أن يأخذه غيري (سير أعلام النبلاء، الذهبي 3: 204).
وكيف لا تكون كذلك، وهي المأساة التي أدمت قلب الإنسانية، وأقرحت جفونها، تألّماً وتأثّراً، لأنّ فيها قتل الشيخ الطاعن في السنّ، الذي جاوز السبعين، وقتل فيها الكهل، وهم الغالبية من أصحاب الحسين. وفيها الفتى الذي جاوز الحلم أو لمّا، من بني هاشم وأقمارهم، وفتيان أصحابهم. وفيها الطفل الرضيع والمرأة العجوز. وفيها التمثيل بأجساد الشهداء، ورضّها بحوافر الخيل، وقطع رؤوسها. وحرمان النساء والأطفال من الماء، ونهب الخيام وحرقها. وسَوْق بنات رسول الله سبايا من بلد إلى بلد، يتصفح وجوههن القريب والبعيد... وإلى ما هنالك من المآسي والآلام التي حلّت بشهداء هذه الثورة.
2ـ الجانب العقائدي للثورة.
إذا أردنا دراسة هذا الجانب، فلم نعرف أنّ ثورة في التاريخ عرفت بعقائديتها بهذا اللون من الإعتقاد، والتفاني من أجله، كثورة الحسين (عليه السلام). والإنسان لا يمكن له أن يعرف المستوى العقائدي لثورة من الثورات، إلاّ أن يدرس النصوص والوثائق لقادة هذه الثورات وأنصارها.
وثورة الإمام الحسين (عليه السلام) بلغت في عقائديتها الذروة العليا في الوعي والعمق، لدى قائدها وأتباعه وأنصاره. فهي لم تختلف وعياً في جميع أدوراها، منذ أن أعلنت حتى آخر نفس من حياة رجالها، على مختلف المستويات الثقافية والإدراكية لرجالها.
فهذا الشيخ الكبير يحمل نفس الوعي للثورة الحسينية، الذي يحمله الكهل والفتى، وحتى الذي لم يبلغ الحلم، يحمل نفس الروح لدى رجالها وأبطالها. فلو تصفّحنا الوثائق الأولى لقائد هذه الثورة الحسين (عليه السلام)، لرأيناها تحمل نفس روح الوثائق التي قالها الحسين (عليه السلام) في آخر حياته.
وحينما مضت أيام من محرم وذكرى عاشوراء وحلت علينا الأربعين رأيت الكل يتوجه نحوه مشيا كبارا وصغارا شيبا وشبابا نساءا ورجالا خرجوا لمواساة أهل البيت عليهم السلام، وليتذوقوا مرارة وحرارة القلوب في نفوس المؤمنين، فوجدت نفسي مقصرة لأني جلست ولم أذهب إليه فقررت أن أذهب إليه مثل الجميع وخرجت مع الجميع ورأيت الناس يتوجهون إليه ولا يوقفون أبداً يكملون نهاراً بليل سيرا إليه وشاهدت المواكب، وهنا كان يصرخ بكلام وقول للحسين ويخدمون بكل همة وعندما وصلت إلى أحد المواكب ارتحت هناك، وجلست وكالعادة أخرجت هاتفي وبدأت أكتب كلاما عن الإمام الذي جعل حبه وعشقه يملأ قلوبهم، وأخذت أكتب فيه:
الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة لكل أبيّ، ومثالا يحتذيه كل ذي نفس عالية وهمّة سامية، ومنوالا ينسج عليه أهل الإباء في كل عصر وزمان، وطريقا يسلكه كل من أبت نفسه الرضا بالدنيّة.
أما إباء الإمام الحسين (ع) للضيم ومقاومته للظلم واستهانته القتل في سبيل الحق والعز فقد ضربت به الأمثال وسارت به الركبان وملئت به المؤلفات وخطبت به الخطباء ونظمته الشعراء، وتحمل الذل والخنوع للظلم، وقد أتى الحسين (عليه السلام) في ذلك بما حير العقول وأذهل الألباب وأدهش النفوس وملأ القلوب وأعيا الأمم عن أن يشاركه مشارك فيه وأعجز العالم أن يشابهه أحد في ذلك أو يضاهيه وأعجب به أهل كل عصر وبقي ذكره خالدا ما بقي الدهر.
وحينما أنا مندمجة بالكتابة نظرت من جانب خيمة الموكب فوجدت الصباح قد حل علينا لنكمل السير نحو المعشوق فنهضنا وسرنا في طريق ومن هناك نظرت من بعيد فإذا بالقبة التي كانت دائماً تضيء نوراً قد كانت موشحة بالسواد والحزن فغمرني البكاء والدموع والفزع لمصيبته العظيمة، لنكرّس أروحنا فداء له في كل المحن والأزمات ومهما كان لأن لن نتنازل أبداً عن حبه وعشقه مهما كان الثمن.
اللهُ يا شهرَ المحرَّمِ ما جرى فيه على آلِ النبيِّ الأنزع
اللهُ من شهر أطلَّ على الورى بمصائب شيَّبن روسَ الرضَّعِ
شهرٌ لقد فُجع النبيُّ محمَّدٌ فيه وأيُّ موحِّد لم يُفْجَعِ
شهرٌ به نزل الحسينُ بكربلا في خيرِ صحب كالبدورِ اللُّمَّعِ
لَكِنَّمَا البَارِي أَحَبَّ لِقَاءَهُم فَغَدَوا على البَوْغَا بِأَكرَمِ مَصْرَعِ
فتلألأت منها الربوعُ بنورِه وعلت على هامِ السماكِ الأرفعِ
وَبَقَى وَحِيدَاً بَعْدَهُمْ سِبطُ الهُدَى يَنعاهُمُ أَسَفَاً بِأَشرَفِ مَدْمَع..
عندما أقول الحسين أذهب في مخيلتي نحو ذلك اليوم الذي كانت فيه خيم محروقة، وبكاء أطفال، وسبي نساء، ورجال قتلوا، وعويل نساء، ومطر السماء دما، والناقة الهزل، ومصيبة ما أعظمها جرت على ال بيت الحسين (عليه السلام).
واليوم مقبلون على هذا الشهر الحزين الذي له حرارة في قلب كل مؤمن ومؤمنة، وكبار السادة والمشايخ يندبون الحسين (عليه السلام) لوعة في قلوبنا تشعل نيرانها ولهيب الخيام وفرار اليتامى والأطفال غمرني حزن شديد، بل أشد من ذلك والآلام التي أقوى من كل شيء وأجهشت بالبكاء بصوت عالي لشدة المصيبة وعظمتها، ومررت إلى مخيلتي من ناحية ثانية، قد أتى شهر الحسين (عليه السلام) ذكرى كسوف شمس البشرية، مصيبة أبكت السماء وسكانها قبل أن تبكي الأرض ومن يعمرها، فالمصيبة عظمى والخطب جلل، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون.. فلتعد العيون للبكاء والنحيب، ولتعد الصدور للطم والأنين.
وسبحان الله كيف أن شهر المحرم بهذه المظاهر الحزينة صار شهراً يحيي النفوس، بنشر سواده الذي يحيي ميت البلاد، وبدموعه وأناته وآهاته التي تحيي النفوس والقلوب، فسبحان الله ما رأينا سواد وكآبة وحزنا تخفي في باطنها حياة وروح وقيام ونهضة كحزن الحسين (عليه السلام).
فالسلام عليك يا ثار الله وإبن ثاره والوتر الموتور، السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى اصحاب الحسين وعلى اولاد الحسين.
عن الرضا (عليه السلام): ”كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكا وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه ويقول هو اليوم الذي قتل فيه الحسين (عليه السلام).
ومع إطلالة شهر محرّم الحرام تتجدَّد الجاذبية الخاصة للإمام أبي عبد اللَّه الحسين ( عليه السلام) لتأتي بالناس من كل حدب وصوب ولتمتلئ المجالس العاشورائية بشكل لا تعهده مناسبات أخرى. وهذا ما يثقل المسؤولية على كل منا في الاستفادة من هذا الموسم المبارك.
وبشكل خاص حينما نعلم أن هذه الجذبة الروحية التي أتت بهؤلاء الناس الى هذه المجالس ليست شيئا من صنع الإنسان، بل هو فعل إلهي، فالله تعالى هو من جعل في قلب المؤمن هذه الجذوة التي تشتعل، كما ان الله تعالى اكرمنا بشهر رمضان، وجعل له أجواءه الخاصة من ” أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم عبادة ”، كذلك هو الذي جعل حرارة للحسين (عليه السلام) في القلوب بحيث لا يرى المرء سبيلا لابرادها إلا بالتقرب من مجالس ذكر الحسين وآل الحسين (عليه السلام).
وكأن هناك رحمة الهية، وتسيير إلهي للأفكار والمشاعر من أجل تفعيل الانسانية حتى تتحرك بإتجاه سيد الشهداء، وحينما يقول الامام (عليه السلام): ” نفس المهموم لنا تسبيح ” فما أعجب الشبه بين هذه الأنفاس وتلك الأنفاس، وهذه العبادة وتلك العبادة. ”
نحن نعلم أن الله تعالى يريد من الإنسان أمرين: روحا عالمة، وعاملة، كما يمدح المؤمنين (الذين آمنوا وعملوا الصالحات). والروح العالمة بالله تتألق في معرفة الله ومحبته، والتوله إليه ومعرفته، لذا أنعم علينا بآل العصمة والطهارة وهم نماذج تجسد اسماءه وصفاته، وجعل نوره ” الله نور السموات والأرض” ”في بيوت إذن الله أن ترفع ويذكر فيها إسمه”، بحيث يرى الناس أسماءه تعالى وصفاته من خلالهم صلوات الله عليهم يرون فيهم قمة الفضائل والكمال، فيحبونهم وينجذبون إليهم، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): “إن الله تبارك وتعالى أطلع إلى الأرض فاختارنا وأختار لنا شيعة ينصروننا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا أولئك منا وإلينا.
وأما الروح العاملة فهي تلك التي فهمت مسئوليتها وان عليها حمل الأمانة الإلهية التي عجزت عن حملها السموات والأرضين والجبال، فهي دائمة التفكير لماذا خلقت وما هي مسؤولية الخلق وماذا يمكن أن تفعل لتؤدي هذه المسؤولية.
وسبحان الله كيف أن هذه النعمة الإلهية التي تتجسد بحزن شهر المحرم تعين المؤمنين على القيام بهذين الدورين، فهي من جهة تلهب القلب بحرارة وعاطفة حزن إلهي رفع الله قدره بحيث جعله ثأره المرتقب على يد وليه صاحب العصر والزمان، وهي حرارة وعاطفة جياشة تكون بدرجة زلزال يرفع عنه ما ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
ثم يوجه الإمام السجاد (عليه السلام) إلى كيفية الإستفادة الروحية النموذجية من الحزن على سيد الشهداء فيقول لأبن شبيب: " يا إبن شبيب إن كنت باكيا لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب (ع) فإنه ذبح كما يذبح الكبش وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلا ما لهم في الأرض شبيه ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله".
أن كنت باكيا فابك الحسين: تعني بعنوان واضح (اوقف عواطفك للحسين ولهموم الحسين) فان عواطفك ودموعك أغلى من أن تذرف لأي سبب أو موضوع، إن كنت باكيا فابك قضية مهمة شغلت قلب رسول الله وآل بيت النبوة، وجعله الله ثأره العظيم، هو الموضوع الأهم الذي يفترض أن يستحوذ على قلبك، بحيث لا يحترق قلبك بالحزن إلا له، والأحزان المتفرعة منه.
وبعدها استيقظت من مخيلتي وقلت أنها حقيقة أم من وحي خيالي، وكان البكاء يغمرني وعيناي اصبحت حمراء وجدتها ووجهي مخطوف لونه، فقمت أتأكد من خيالي والحقيقة فتصفحت كتاب عنوانه: ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ونهضته للإسلام، وأكملت القراءة وتمعنت في فحواها فوجدت فيها حقائق ومنها.. ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) قد تمخضت وكشفت عن جانبين مهمين هما:
1- الجانب العاطفي للثورة
وهي الثورة الوحيدة في العالم، التي لو تسنّى لكل فرد مهما كان معتقده وفكرته أن يقرأ مسرحيتها بكل أبعادها وتفاصيلها، لما تمكّن من أن يملك دمعته وعبرته. وكما هو المعروف الآن في البلاد غير الإسلامية كالهند وبعض الدول في أفريقيا حيث يقرأ بعض أبنائها ملحمة واقعة الطف في كربلاء، فإنهم لا يملكون إلاّ أن يجهشوا بالبكاء، وقد يؤدي أحياناً إلى ضرب الصدور لا شعورياً، لأنها مأساة أليمة تتصدع القلوب لهولها ومصابها.
وذلك كما وصفها المؤرخ الانكليزي الشهير جيبون بقوله: «إن مأساة الحسين المروّعة، بالرغم من تقادم عهدها، وتباين موطنها، لابدّ أن تثير العطف والحنان في نفس أقل القرّاء إحساساً وأقساهم قلباً» (تاريخ العرب، السيد مير علي).
وأكثر من هذا، إنه قد روي: إنّ الذين قاتلوا رجال الثورة لم يملكوا أنفسهم من البكاء، فهذا (عمر بن سعد) قائد الجيش الأموي في كربلاء، يبكي عندما نادته زينب بنت علي (عليها السلام) قائلة له: «يابن سعد! أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ فصرف وجهه عنها ودموعه تسيل على لحيته (انظر الكامل في التاريخ، ابن الأثير 3: 295، تاريخ الطبري 4: 245).
وقيل أيضاً: إنّ الأعداء بعد قتل الحسين (عليه السلام)، هجموا على عياله يسلبونهم وهم يبكون. فجاء رجل إلى فاطمة بنت الحسين وأراد سلبها وهو يبكي، فقالت له: لماذا تسلبني إذن؟
فقال لها: أخاف أن يأخذه غيري (سير أعلام النبلاء، الذهبي 3: 204).
وكيف لا تكون كذلك، وهي المأساة التي أدمت قلب الإنسانية، وأقرحت جفونها، تألّماً وتأثّراً، لأنّ فيها قتل الشيخ الطاعن في السنّ، الذي جاوز السبعين، وقتل فيها الكهل، وهم الغالبية من أصحاب الحسين. وفيها الفتى الذي جاوز الحلم أو لمّا، من بني هاشم وأقمارهم، وفتيان أصحابهم. وفيها الطفل الرضيع والمرأة العجوز. وفيها التمثيل بأجساد الشهداء، ورضّها بحوافر الخيل، وقطع رؤوسها. وحرمان النساء والأطفال من الماء، ونهب الخيام وحرقها. وسَوْق بنات رسول الله سبايا من بلد إلى بلد، يتصفح وجوههن القريب والبعيد... وإلى ما هنالك من المآسي والآلام التي حلّت بشهداء هذه الثورة.
2- الجانب العقائدي للثورة
إذا أردنا دراسة هذا الجانب، فلم نعرف أنّ ثورة في التاريخ عرفت بعقائديتها بهذا اللون من الإعتقاد، والتفاني من أجله، كثورة الحسين (عليه السلام). والإنسان لا يمكن له أن يعرف المستوى العقائدي لثورة من الثورات، إلاّ أن يدرس النصوص والوثائق لقادة هذه الثورات وأنصارها.
وثورة الإمام الحسين (عليه السلام) بلغت في عقائديتها الذروة العليا في الوعي والعمق، لدى قائدها وأتباعه وأنصاره. فهي لم تختلف وعياً في جميع أدوراها، منذ أن أعلنت حتى آخر نفس من حياة رجالها، على مختلف المستويات الثقافية والإدراكية لرجالها.
فهذا الشيخ الكبير يحمل نفس الوعي للثورة الحسينية، الذي يحمله الكهل والفتى، وحتى الذي لم يبلغ الحلم، يحمل نفس الروح لدى رجالها وأبطالها. فلو تصفّحنا الوثائق الأولى لقائد هذه الثورة الحسين (عليه السلام)، لرأيناها تحمل نفس روح الوثائق التي قالها الحسين (عليه السلام) في آخر حياته.
وحينما مضت أيام من محرم وذكرى عاشوراء وحلت علينا الأربعين رأيت الكل يتوجه نحوه مشيا كبارا وصغارا شيبا وشبابا نساءا ورجالا خرجوا لمواساة أهل البيت عليهم السلام، وليتذوقوا مرارة وحرارة القلوب في نفوس المؤمنين، فوجدت نفسي مقصرة لأني جلست ولم أذهب إليه فقررت أن أذهب إليه مثل الجميع وخرجت مع الجميع ورأيت الناس يتوجهون إليه ولا يوقفون أبداً يكملون نهاراً بليل سيرا إليه وشاهدت المواكب، وهنا كان يصرخ بكلام وقول للحسين ويخدمون بكل همة وعندما وصلت إلى أحد المواكب ارتحت هناك، وجلست وكالعادة أخرجت هاتفي وبدأت أكتب كلاما عن الإمام الذي جعل حبه وعشقه يملأ قلوبهم، وأخذت أكتب فيه:
الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة لكل أبيّ، ومثالا يحتذيه كل ذي نفس عالية وهمّة سامية، ومنوالا ينسج عليه أهل الإباء في كل عصر وزمان، وطريقا يسلكه كل من أبت نفسه الرضا بالدنيّة.
أما إباء الإمام الحسين (ع) للضيم ومقاومته للظلم واستهانته القتل في سبيل الحق والعز فقد ضربت به الأمثال وسارت به الركبان وملئت به المؤلفات وخطبت به الخطباء ونظمته الشعراء، وتحمل الذل والخنوع للظلم، وقد أتى الحسين (عليه السلام) في ذلك بما حير العقول وأذهل الألباب وأدهش النفوس وملأ القلوب وأعيا الأمم عن أن يشاركه مشارك فيه وأعجز العالم أن يشابهه أحد في ذلك أو يضاهيه وأعجب به أهل كل عصر وبقي ذكره خالدا ما بقي الدهر.
وحينما أنا مندمجة بالكتابة نظرت من جانب خيمة الموكب فوجدت الصباح قد حل علينا لنكمل السير نحو المعشوق فنهضنا وسرنا في طريق ومن هناك نظرت من بعيد فإذا بالقبة التي كانت دائماً تضيء نوراً قد كانت موشحة بالسواد والحزن فغمرني البكاء والدموع والفزع لمصيبته العظيمة، لنكرّس أروحنا فداء له في كل المحن والأزمات ومهما كان لأن لن نتنازل أبداً عن حبه وعشقه مهما كان الثمن.
اضافةتعليق
التعليقات