قال تعالى في مشهد من مشاهد قصة نبيه إبراهيم (عليه السلام): {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ○قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِن كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}(١) إنها "قصة الامتحان الالهي" هي قصة يعيشها كل بني البشر كلاً حسب درجته وقابليته، فتعالى يعبر عن درجة بلاء نبيه في قوله {إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ}(٢)، فهو عظيم من ناحية ومن ناحية أخرى فيه تبيان حال الإنسان الذي لا يُعلم إلا بالوقوع بالبلاء.
(فالبلاء) سنة إلهية وغاية من غايات خِلقة الإنسان، كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}(٣)، فبها يكتشف الإنسان جوهره، يًصقل شخصيته، يُترجم حقيقة علاقته بربهِ، وتَحمله لمسؤوليته كخليفة على هذه المعمورة.
ففي هذه السنة الالهية ثلاثة أركان: (المُبتَلي) وهو الخالق جل وعلا، و(البلاء) النازل من المُبتلي، و(المُبتلى) وهو الانسان، وهناك نتيجة وهي: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...}، أي أن يكون الإنسان من المُحسنين، ليس بمعنى أن يُحسن لمن إبتلاه فهو الغني عنه! وإنما يُحسن تسخير ذلك البلاء، يُحسن الإنتفاع من هذا البلاء ب: (بناء ذاته، علاقته بربه، وتحقيق صِدق إرتباطه ومعرفته بربه)، وذلك عبر:
أولاً: تحقيق التسليم الباطني، والرضا والامتثال للقيام بالأمر الإلهي مهما كان صعباً على النفس، كما فعل نبينا وابنه فقال تعالى: {أَسْلَمَا}.
ثانياً: تجلي ذلك التسليم بالتصديق أي تجسيد الإمتثال الباطني إلى الإمتثال الظاهري كما بينت الآية بقوله تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ}.
فإن تَحقق ذلك به رُفع عنه الإختبار ونال كرامة القرب ورفع الدرجات، كما قال تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ○وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ○سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ○كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(110)إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}(٤)، فأصل غاية الإبتلاء ليس لنتأذى بخسران ما نُحب أو بالتضحية فيما نتعلق به فقط وفقط! وإنما لأجل أن نكتشف جوهر نفوسنا، وحقيقة حبنا لله تعالى، فإن تحقق ذلك وتجلى لنا، وكنا من أهل الصدق فيما ندعي تكون قد تحققت الغاية.
فالذي يتعامل مع البلاء على إنه (رحلة لكشف الذات) لن يتذمر من الصعوبات التي ترافقه اثناء الرحلة، بل ستبقى عينه على نقطة الوصول، لذا لابد أن يكون الإنسان دائما ملتفت لربه، ممتثلا لأمره، عاملاً بأوامره ونواهيه، غير مستكبراً ولا شاكاً فيما يقدره له ويقضيه.
فعدم الالتفات إلى هذه النقطة هو في الغالب يؤدي إلى مشكلات القلق والاكتئاب واليأس عند الوقوع في أي ابتلاء كالفقد أو سلب احد النعم، ولتحقق هذه المرتبة من العبودية لابد من تحقق المعرفة بهذا المعبود بكونه لا يصدر منه إلا كل جميل لأنه لطيف تارة، ولأنه حكيم وخبير تارة أخرى.
وهكذا كان صدق تسليم نبي الله إبراهيم (عليه السلام) فجعله على أثر حسن عبوديته لربه [خليلا]، إذ إن قلبه [خلى] مما سوى محبوبه الأزلي فلم يكن صعب عليه أن يتخلى حتى عن ولده وعزيز فؤاده، وهكذا صار [أقرب] خلقه اليه، فتلك الخلة أعانته ليكون ذو قلب ممتلئ بحب الله وحده.
وللعالم الرباني التستري(٥) التفاتة جليلة يقارن فيها بين قرباني نبي الله ابراهيم وامامنا الحسين (عليهما السلام) فيقول: "إن علياً الاكبر حين أقبل الى أبيه يوم عاشوراء طالباً الإذن بالقتال كان شأنه مع أبيه على عكس ما وقع بين ابراهيم واسماعيل: هناك ابتدأ الأب ولده فقال {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى}، الاب كان يريد أن يجعل ولده راضياً بما يريد الإقدام عليه، فقال الولد: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}(٦).
ولكن علي الأكبر هنا لما أقبل كان هو قد إسترضى أباه، وقال: "إئذن لي يا أبت بالقتال"، وهو القائل: «يا أبتَ، ألَسنا على الحق»؟...«إذاً لا نبالي أوقعنا على الموت أو وقع الموتُ علينا»، فأجابه الإمام الحسين(عليه السلام): «جَزَاك اللهُ مِن وَلدٍ خَير مَا جَزَى وَلَداً عن والِدِه»(٧).
فكما يقال: "الحب لا يكتب بدفتر" فنبي الله ابراهيم (عليه السلام) لم يُسطر أشعار ولا حكايا للناس بأي كتاب قد تقع عين أحدهم عليه فيقرأه أو قد لا يُقرأ! بل الله تعالى سطر مواقفه وأفعاله التي ظهرت منه على أرض الواقع، فخَلدت قصة حبه في أعظم واقدس كتاب (القرآن الكريم).
أما سيد الشهداء(عليه السلام) فهو وريث هذه القصة كما نخصه بإحدى زياراته ونقول: "اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ اِبْراهيمَ خَليلِ اللهِ..."، فقصة القربان التي جسدها الامام بأرض كربلاء، تعالى خلدها بكل وجدان يقرأ مكنون تلك الآيات التي سُطرت بها قصة نبي الله ابراهيم (عليه السلام).
فإن أردت أن تَكون وريثا لهذا الحب الإبراهيمي عليك أن تُوجد في نفسك قابلية أن تكون قادر على الإقدام [ لنَحر] كل ما أنت متعلق به في دنياك فتقدمه [قرباناً] لمن تدعي حبه والتعلق به سبحانه وتعالى.
-----
اضافةتعليق
التعليقات