كان بيت السيدة خديجة سلام الله عليها مهبط العلم والمعرفة حيث كان يعقد فيه مجلس العلم والمباحثة كما يذكر أنّ الأحبار كانوا يتردّدون على السيدة خديجة (عليها السلام) وذلك لمكانتها الاجتماعية والاقتصادية، وكانت (عليها السلام) تكرمهم وتفيض عليهم من خيراتها الطائلة.
وفي أحد الأيام وبينما كان أحد الأحبار في بيتها وهي جالسة مع جماعة من نسائها وجواريها إذا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يمرّ، فنظر إليه ذلك الحبر وقال: يا خديجة قد مرّ الآن بدارك شاب حدث السن، فأمري من يأتي به.
فأرسلت إليه جارية من جواريها وقالت: يا سيدي مولاتي تطلبك.
فأقبل (صلى الله عليه وآله وسلم) ودخل منزل خديجة.
فقالت: أيّها الحبر هذا الذي أشرت إليه؟
قال: نعم هذا محمّد بن عبد الله.
وقال: طوبى لمن تكون لـه بعلاً وتكون لـه زوجة وأهلاً، فقد حازت شرف الدنيا والآخرة.
فتعجّبت السيّدة خديجة، وانصرف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد اشتغل قلبها بحبّه، وكانت السيّدة خديجة ملكة عظيمة ولها من الأموال والثروة الطائلة ما لا يحصى، فقالت: أيّها الحبر بم عرفت أنه نبي؟
قال: وجدت صفاته في التوراة أنه المبعوث آخر الزمان يموت أبوه واُمّه ويكفله جدّه وعمّه وأنّه سيتزوّج بامرأة من قريش سيدة قومها وأشار بيده إليها، ثم قال لها: احفظي ما أقول لك يا خديجة.
فلمّا سمعت السيّدة خديجة ما نطق به الحبر تعلّق قلبها بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر وكتمت أمرها.
فلمّا أراد الخروج من عندها قال: اجتهدي أن لا يفوتك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو الشرف في الدنيا والآخرة*1.
هناك مواقف متعددة تعرّف فيها السيدة خديجة سلام الله عليها فضائل النبي صلى الله عليه وآله ولهفت لمعرفته أكثر فأكثر وينقل المؤرخون أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما أشرف على مشارف مكة المكرّمة بعث المخبرين كي يبشّروا بقدومه إلى مكة بعد رجوعه من الشام..
وبالفعل، فقد أخذ المبشّرون يبشّرون بقدومه (صلى الله عليه وآله وسلم) ويخبرون الناس عن عظيم تجارته ومدى موفّقيته في سفره، وكيف أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) حاز على الكثير من البركات في هذه السفرة الشاقّة.
ولذا فإنّهم لمّا علموا بالخبر خرجوا مبادرين يسبقهم عبيد خديجة وجواريها، فكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يمرّ على عبد من عبيد خديجة إلاّ يعقر ناقة فرحاً بقدومه.
ثم تفرّق الناس إلى منازلهم ونظرت السيّدة خديجة (عليها السلام) إلى جِمالها وقد أقبلت سالمة وكانت قد اعتادت أن يموت بعضها في كل سفرة ويجرّب البقية إلاّ في هذه السفرة، فإنّها لم تنقص منها شعرة، فوقف الناس متعجّبين من ذلك وأخذوا يتساءلون لمّا تمرّ بهم الجمال: لمن هذه؟
فيقال: هذا ما أفاده محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لخديجة من الشام.
فذهلت عقولهم.
ولمّا اجتمعت أموال السيّدة خديجة فكّوا رحالها وعرضوا الجميع عليها وكانت جالسة خلف الحجاب والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جالس وسط الدار و(ميسرة) يعرض عليها الأمتعة شيئاً فشيئاً.
فدهشت من بركة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعثت إلى أبيها تخبره بذلك وترغّبه في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فما هي إلاّ ساعة واحدة وإذا بخويلد قد أقبل ودخل منزل السيّدة خديجة وإذا بها تقوم لـه إجلالاً وتجلسه إلى جنبها وتبدأه بالترحيب به، ثم أخذت تعرض عليه البضائع وهي تقول: يا أبت هذا كلّه ببركة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والله يا أبتاه إنه مبارك*2.
فقد نقل العلامة المجلسي (رضوان الله تعالى عليه) في (البحار) أنه: كان لخديجة عم يقال لـه ورقة، وكان قد قرأ الكتب كلّها وكان عالماً حبراً، وكان يعرف صفات نبي آخر الزمان، وكان عنده أنه يتزوّج بامرأة سيدة من قريش تسود قومها وتنفق عليه مالها وتمكّنه من نفسها وتساعده على كل الاُمور، فعلم ورقة أنه ليس بمكة أكثر مالاً من خديجة، فرجا ورقة أن تكون ابنة أخيه خديجة وكان يقول لها: ياخديجة سوف تتّصلين برجل يكون أشرف أهل الأرض والسماء*3.
عندما عرفت السيدة خديجة سلام الله عليها كرامات النبي التي حدثت في طريقه إلى الشام وما حدث مع الراهب الذي انحنى أمام الرسول صلى الله عليه وآله تمنت أن تكون هي صاحبة الفضيلة وتحظى بهذا الشرف العظيم والزواج منه ففي التاريخ أنّها (عليها السلام) عرضت نفسها عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت له: قم إلى عمومتك وقل لهم يخطبوني لك من أبي، ولا تخش من كثرة المهر فهو عندي.
وهذا الأمر من الأمور الملفتة للنظر حيث إنها كانت في تلك المكانة الرفيعة ولم تهتم بأي شيء سوى الجوهر فقد بذلت مالها وكلما تملك في سبيل الإسلام والتمسك بهذا الرسول الكريم وتحملت الأذى في سبيل الله وفاءا لزوجها ولغاية سامية التي هي اعلاء كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله.
إنها (عليها السلام) أوّل من أسلمت من النساء وآمنت برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأوّل من صلّت خلفه (صلى الله عليه وآله وسلم)*4.
وأصبحت من النساء المختارات.
عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ الله اختار من النساء أربعاً: مريم وآسية وخديجة وفاطمة»*5.
عندما يتعلم الانسان العلم لوجه الله سوف يأخذ بيده إلى الشرف حيث الشرف وكلما كان الانسان أعلم عرف الدنيا وألعابها الزائلة فهكذا يبحث أكثر فأكثر عن جوهر السعادة وهذه السعادة لا تكتمل إلا بالتمسك بأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
فقد عرفت هذه السيدة الجليلة مكانة ذلك النبي العظيم الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاق
ووصلت إلى ما وصلت من مكانة رفيعة وجاه عظيم حيث سلم الباري عزوجل عليها..
وروي أنه أتى جبرئيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: هذه خديجة قد أتتك معها إناء مغطّى فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربّها ومنّي وبشّرها ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب*6.
فسلام على من سلم عليها ربها وآزرت النبي بكل ما تملك.
اضافةتعليق
التعليقات