بين ملايين المقاطع المنتشرة التي تزداد في كل لحظة، وتتضاعف بصورةٍ مرعبة، حول قوانين النجاح والأمور المتعلّقة بكسب الأموال، جذبني الحديث عن النيّة الخالصة والقلب النقي، حيث إنّ الدراسات تشير إلى أنّ من يعمل بدافعٍ صادقٍ وإحساسٍ بالمعنى، يتمتّع بطاقةٍ نفسيّة أعلى، وعلاقاتٍ اجتماعيةٍ أمتن، وقدرةٍ أكبر على تجاوز التحدّيات، مما يفتح أمامه أبواب الفرص بصورةٍ غير مباشرة لكنها ملموسة.
يظنّ الكثير منّا أنّ الرزق نتيجة كفاحه وجهده فقط، بل من المدهش أن نعرف أنّ الأمر أدقّ بكثير؛ إذ إننا نرى ظواهر الأمور، ولا نعرف أن كلّ شيءٍ مقيدٌ بعالم الميتافيزيقيا. وهكذا يلتقي الإيمان بالقيم الروحية مع البرهان العلمي الحديث في تأكيد أنّ الرزق ليس وليد الصدفة، بل هو ثمرةُ نيّةٍ صافيةٍ وجهدٍ مخلصٍ في خدمة الآخرين.
واليوم، تكشف الأبحاث الحديثة في مجالات علم النفس الإيجابي، والاقتصاد السلوكي، وعلم الأعصاب، ما كان يردّده الحكماء منذ قرون: أنّ صفاء النيّة والإخلاص في العمل لا ينعكسان فقط على الجانب الأخلاقي للإنسان، بل يمتدّ أثرهما ليؤثّر بعمقٍ في فرص الرزق والنجاح.
لذلك، عندما أرى شخصًا ناجحًا، أسأل نفسي: يا ترى، ماذا فعل ليستحقّ هذه المكانة وهذا النجاح؟
عندئذٍ يجد الإنسان آلاف الإجابات، من التمسّك بالإخلاص والنيّة الصالحة، أو الإكثار من أعمال الخير بشتى أنواعها.
سيّدة نساء العالمين (سلام الله عليها) مثالٌ للأخلاق والقدوة الصالحة، تشير إلى حقيقةٍ مهمّة، وهي الحفاظ على سلامة القلب، والتركيز على أنّ الأفعال والنيّات كلّها مكشوفة أمام الله عزّ وجل، والحثّ على الإتيان بكلّ شيءٍ بصورةٍ دقيقة، حيث قالت فاطمة (عليها السلام):
«من أصعد إلى الله خالصَ عبادته، أهبط الله إليه أفضلَ مصلحته.»
أي أنّ من أخلص نيّته لله في عبادته وعمله، فإنّ الله تعالى يتولّى شأنه، فينزل عليه من فضله ما هو أصلح له في دنياه وآخرته. فهي دعوةٌ إلى الإخلاص في النيّة والعمل، والثقة بأنّ الله هو المدبّر الأعلم بمصلحة عبده.
في البلاغة، يُستعمل الصعود لما يُتقبّل ويرتفع قدره، كما قال تعالى:
«إليه يصعد الكلمُ الطيّبُ والعملُ الصالحُ يرفعه»
أي إنّ الله يرفع العمل الصالح والعبادة إليه، بشرط أن تُقدَّم خالصةً من الرياء والهوى.
وصف خالص يدلّ على النقاء من الشوائب، أي من الرياء والمقاصد الدنيوية.
العبادة الخالصة هي التي يُبتغى بها وجه الله فقط، بلا انتظار مدحٍ أو جزاءٍ من الناس.
وبعد ذلك يُهبِطُ اللهُ إليه أفضلَ مصلحته؛ والمقابلة بين أصعد وأهبط بليغةٌ جدًّا، فهي تصوّر حركةً متبادلةً بين العبد وربّه: العبد يرفع إخلاصه، والله يُنزل عليه الخير والبركة. هذا التوازن الحركي في الجملة يوحي بعلاقةٍ تبادليةٍ قائمةٍ على الصدق والثقة.
قوله ينزل الله إليه أفضل مصلحته؛ أفضل هنا للتفضيل، أي أنّ الله لا يعطي عبده أيّ مصلحةٍ فحسب، بل أحسن ما فيه صلاحه الحقيقي، حتى لو خفي ذلك على العبد.
و«المصلحة» تشمل الرزق، والنجاح، والطمأنينة، والهداية، وكلّ ما فيه نفعٌ للعبد.
قد لا ينتبه الإنسان إلى النِّعم التي تحيط به في كلّ مكانٍ ومن كلّ اتجاه. لذلك، إذا كان يبحث عن النجاح، فعليه أن يهتمّ بهذه التفاصيل الدقيقة ليحصل على خيرات الدارين.
ومن الجميل أن نؤمن بأنّ الرزق ليس مجرّد أرقامٍ في حسابٍ، أو منصبٍ يُذكر في بطاقة تعريف، بل هو سكينةُ القلب، وبركةُ الوقت، ونورُ الطريق.
كلّ ما يصعد إلى الله من إخلاصٍ وصدقٍ، يعود إلى صاحبه خيرًا مضاعفًا، فالله لا يضيع عملَ عامل.








اضافةتعليق
التعليقات