بين الدين والعلم، هناك أرضية مشتركة، فكلاهما يدعّي أنه نورٌ يُمزّق ظلمة الجهل، وفي رحاهما تدور الأسئلة والاستفسارات التي لاتنتهي من قبل لماذا وكيف ومن...، رؤيتهما واحدة وهي أن لاشيء يوجد بلاسبب، ومع هذا لم يسلما من أباطيل كثيرة تُنسب إليهما..
كل من يكون تحت جنحهما ظامئ للحقيقة ويسعى للإرتشاف من كأسها ولو جزئيا، هناك العديد من المكاسب لمحبيهما، كل منهما ولاسيما العلم يعتمد أو يتعكّز على العقل ويعده ركيزة أساسية في تقوية مبادئه أو حتى اكتفائه بنفسه، وأيضا متبع كل منهما يقول أنه مفعم تحت ظلهما بإحساسٍ عال وحماس رائع ولحظة تجلّي قد تُنسيه كل ماحوله..
تبقى الأجوبة والتفسيرات هي من تفرّق بينهما ومنها أصل الوجود ومبادئ الحياة..، فجعلتهما أشبه بشاطئين منفصلين أو جزيرتين متباعدتين، وهنا سؤال حقيق أن يُسأل، هل هناك قنطرة بين العلم والدين؟.
إلى هنا لم نذكر أي دين نقصد، وتحديده بلاشك يؤثّر في الإجابة بنعم أو لا، وبطبيعة الحال سيخرج الماديين وأتباع مذهب الاشتراكية والشيوعية من خانة البحث لأنهم يؤمنون بالصدفة ونحن بدايةً أذعنّا بإتفاق العلم والدين بالسبب والمسبب، والشيوعية كما نعرف تنكر العقائد وتتجنب الخوض في مسائل الدين أصلاً.
أما بقية الأديان بطوائفها المختلفة ستبقى تحت مجهر البحث، ويتمخض سؤالٌ هنا يقول: لمَ العلاقة متضعضعة وغير متوافقة بينهما بل حتى متضادة أحيانا ولاسيما في عصرنا الحالي؟، ومع موجة الإلحاد المنتشرة، كيف نُقنع العلماء أن يكونوا مؤمنين ومعتنقي لديانة ما؟.
لانستطيع الخوض كثيرا في الدين اليهودي _الحالي_ لأسباب؛ منها أنه دين يؤمن بأن شعبه مُختار، ولايستقبل دماء وأعراق جديدة، وبكلمة أدق وأوضح ليست لديهم حركة تبشيرية أو دعوة رسالية كالمسلمين والمسيح.
ومع ذلك لاننسى هنا أشهر شخصية علمية في التاريخ أجمع وهو الفيزيائي المشهور انشتاين ذو الديانة اليهودية، وصاحب المقولة الشهيرة: "العلم من دون دين أعرج، والدين من دون علم أعمى"، وهو على الدوام كان يُثبت عدم تعارض العلم مع الإيمان، وعقله لم يقبل خرافات تحويها دينه كما انتقد التثليث عند النصارى.
يقول انشتاين: إذا قام أحد بتطهير اليهودية التي جاءت بها الأنبياء، والمسيحية التي علمها عيسى المسيح، من كل الإضافات اللاحقة، خصوصا تلك التي وضعها القساوسة، سيصبح لديه تعليما قادرا على علاج جميع أسقام البشر الاجتماعية، إنها مهمة كل رجل حسن النية، أن يسعى بثبات في عالمه الخاص الصغير لجعل هذه التعاليم الانسانية الخالصة قوة حية.. بقدر ما يستطيع".
وعندما نأتي إلى المسيحية فأتباعها متنوعين منهم المؤمن الملتزم وقد يعمل في السلك العلمي، ففي وكالة ناسا مثلا هناك ملحدين ومؤمنين، وهناك البعيد أو المشكك في هذا الدين قائلا أن الكتاب المقدس يناقض مسائل علمية كثيرة لسنا بصدد البحث عنها هنا.
ولعلّ من أكثر الجدليات التي أثيرت حول هذين المفهومين، هو التساؤل حول المقاييس الأخلاقية وربطها بالعلم والدين، يقول أحدهم وهو بروفيسور في علم الأحياء المجهرية: كانت أديان العالم.. وراء أهوال الذبائح البشرية، الحملات الصليبية، المذابح المنظمة، ومحاكم التفتيش، وفي عالم اليوم يصبح هذا الجانب الأحلك من الدين خطرا، لأن الدين بخلاف العلم، ليس محايدا.."، ويرد عليه الكثير من المعارضين واتهموا العلم من باب أولى فهو الذي صنع الصواريخ والأسلحة وهي وقود الحروب التي تحصل في العالم اليوم.
وفي الوقت الحالي، وفي مراكز بحث مسيحية كبرى، يسعى الكثير من العلماء (المؤمنين) إلى إثبات ونشر مقولة أن العلم يزيد الإيمان والعكس صحيح وإعادة إحياء بعض الطقوس..
وهذه الجهود إنما أتت بعد اعتناق الكثير وتوجههم إلى أديان أخرى ك(البوذية) مثلا ومن أسباب ذلك فقدانهم للحالة المعنوية للعبادة في عالم يدور حول الآلة والمادة..
فالعقل هو المسيطر حاليا في الغرب وله الأولوية حتى على الدين أما في الشرق كالهند والصين فهناك إلى حدٍ ما الروح والماورائيات التي أغرت طقوسها المعنوية الكثير من الناس بعد أن تعبوا من حياةٍ بلا معنى ورسالة.
وهناك من يرى أن الإشكالية الأكبر في المسيحية فضلا عن الآيات المحرفة هو جوهر ديانتهم وهي إعتقادهم بأن عيسى هو ابن الله وهو مايُشكل ضعف في العلاقة والنظرة إلى الدين والمّقدّس، كون أن الإله في منظورهم نزل إلى مستوى التجسيد وهبطت مع هذه الاعتقادات درجة إيمان المسيحي بالغيب أو المطلق!، وذلك أمام تأليه الإنسان مما شكل غنىً عن الله في كثير من الحالات.
قد يُذبح الدين اليهودي على منحر التعصّب وعند المسيحية على منحر الثالوث والحرية والمادة فضلا عن معتقدات أخرى، فكيف يُذبح الدين الاسلامي اليوم وعلى أي منحر؟!
هناك ثغرات خطيرة في الثقافة الاسلامية، علّ أبرزها هو اختلاف المصدر الحقيقي للدين وماينتج عن ذلك من شبهات وانحرافات بل مصائب كثيرة ولعل التاريخ هنا من يجيب وليس العلم، وأيضا هناك الفجوة بين النظرية والتطبيق، العبادة والسلوك، وأخيراً آفة الارهاب التي شوّهت الاسلام وأدخلوا عليه العنف فنفر الكثير منه، وإلا فكتاب المسلمين يرفع قيمة العلم والمعرفة، يقول تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات). فالعلم باعتقاد المسلمين طريق لمعرفة الله.
وإنّ مبدأ الحوار للوصول إلى الحقائق من مناهج هذه المدرسة والشريعة، حيث لا تعصب ولا أحكام مسبقة، فنصير الدين الطوسي كان من أبرع الناس في الرياضيات، وجابر ابن حيان مؤسس علم الكيمياء وغيرهم الكثير، أولئك شخصيات علمية ودينية خدمت الدين والعلم على حد سواء.
والدين الاسلامي يدعو المسلمين بعرض أي حديث أو حدث إلى القرآن والعقل فإن لم يوافقهما فليُضرب بعرض الحائط، وتبقى بعض الاستثناءات التي قد تبدو أنها تتعارض مع العلم كالمعجزات والحوادث التي يتوقف العقل عن الإجابة عنها، فهنا تكون بغرض إثبات أحقية الدين وحامل الرسالة وقدرة الإله وغيرها من القضايا.
وسعيا للتوفيق بين الكثير من الأقوال، نقول أن الدين يضفي للعلم معنىً وقيمة وهدف فهو يقرّب الانسان إلى الله ويؤطِر العلم بقواعد أخلاقية "فعندما تطلع الشمس تتوارى الشموع"، والعلم يقوّي الدين فيعطيه الحجة والدليل والمنطق.
قد يكون العلم قاصر والدين يُجيب، أما إذا أجاب العلم وسكت الدين فهناك غيبيات تتوقف على قوة إيمان الشخص، وكما يُقال: "الدين الحقيقي والعلم الحقيقي متوافقان"، وكلاهما في وقتنا الحالي زُّيِّف وسُيِّس وقولب.. ف"العلم أصل كل خير" كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام).
وفي فضاء كل من العلم والدين هناك بلاشك ميكروبات تسبح في هوائهما، ولكن لن يصاب بالعدوى إلا ضعيف المناعة!.
اضافةتعليق
التعليقات