بدأت خیوط الفجر تنسج في الأفق رداء السطو والجبروت، فلم تترك لسرادق اللیل سوی خیاراً واحداً وهو الرحیل وإفساح المجال لعروس الصباح لتفرش برقعها الساطع علی وجه الخلیقة فتکلله بالضیاء، وتداعب غفوته بهیاج العصافیر وزقزقتها الصاخبة.
لم تكن ابتهاجات الصباح کافیة لمحو آثار اللیلة اللیلاء التي قضاها المولی أمیر المؤمنین (ع) مسهداً، یعالج مسألة التآمر الأموي في بلاطات الشام القابعة فوق دسائس معاویة وعمرو بن العاص العفنة.
کان نزیز الشام المتقاطر في أسس الحضارة الإسلامیة الممتدة برحابتها من حدود الصین في آسیا، إلی شمال افریقیا وصولاً للأندلس؛ کفیلاً بالرجوع نحو القهقری وإسقاط المسلمین في مهاوي الإلتباس والشك بمقام الولایة الحقة المنصوبة من قبل الرسول (ص).
ها هي صروف الأیام تكشر عن أنیابها مرة أخری لتزعق بأزیز حرب شعواء تدور رحاها بین فئتین من المسلمین یقرأ کلاهما القرآن ویصلي الفروض الخمس.
راحت الأفكار تزخ في رأسه الشریف، زخات متكررة، تؤرجحه فوق أجنحة القلق، یبدو أن لا خیار سوی الحرب، هذا الفیصل القاضي الذي أثقل کاهل الأمة لجهلها وترکها وصایا رسول الله (ص) بعدم التخلي عن الثقلین.
غربلة الأصالة:
کانت أراضي صفین متربعة بزهوها علی نهر الفرات الرقراق المتدفق بعنفوانه الذي لا ینكفئ زاخراً متلاطماً؛ إلا أنه لم یشبع جشع هذه الأرض فأبت إلا أن تسقی بدماء الشهداء.. أبطال الوغی وفرسان الهیجا الذین أبو أن ینساقوا لهذه الفتنة الهوجاء، فآثروا الموت علی حیاة الذل
والهوان الأموي.
في الحقیقة شكل هؤلاء الفتیة لوحة الفسیفساء الخلابة التي عكست في تموجاتها بریق الأمل الفسیح.
خرج مع المولی أمیر المؤمنین (ع) شاب مقدام همام، اتسع قلبه لحمل ثقل الولایة وحمایتها حتی بلغ مجمع البحار إنه (حسان بن شریح الطائي) رجل المواقف الصعبة وإحراز النقاط ساعة الذروة.
کانت صفین مختبراً عملیاً لكل الإدعاءات، فمن ثبت فیها کان في غیرها أثبت، ومن خسر فیها کان في غیرها أخسر وأکثر اهتزازاً، وهذا ما یفسر بوضوح ما حصل (بن ذي الجوشن )،
و(شبث بن ربعي)، وآخرین ممن تزلزلت أقدامهم في معرکة صفین بل وقفوا ضد علي علیه السلام.
من هذا المنظار یظهر جلیاً مدی الإیمان والثبات الذي کان یتمتع به (حسان بن شریح) الذي قاتل في رکاب أمیر المؤمنین (ع) فی الجمل وصفین واستشهد فیها مبارکاً عارجاً إلی الملكوت الأعلی في زفة ملائكیة استحقها.
صدی الشمائل:
دیدن النبع الفوران والعطاء، والسیر دوماً لإرواء عطش الحقول والزهور الذابلة المتناثرة علی أطرافه کل حین.
کان حسان ذلك النهر الذي نبع من ینبوع الكرم والأصالة، ولید سلالة الإباء والشهامة.
جده (سعد بن حارثة) الذي نعته الجاحظ بقوله نقلاً عن ابن الكلبي: من الأشراف سعد الأثرم بن حارثة بن لأم، کان شریفاً نبیهاً. (کتاب البرصان والعرجان للجاحظ).
سباق للخیر ومساعدة الناس وإجابتهم، فلم یكن لیرضی أن یجار أحد من الناس وهو قادر علی فعل ذلك، حسن الخلق إذا صمت جلله الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء شجاع مغامر جرئ، کریم الشمائل، ذاعت صیته في الآفاق حتی بلغت مسامع (النعمان بن المنذر) ملك الحیرة الذي طمع بمصاهرته، فتقدم خاطباً ابنته (فرعة) فتزوجها وقرب هذه الأسرة إلیه ومنحهم الكثیر من الحبوة والمنزلة.
مقارعة النسور:
خلف حسان ولداً شاباً خرج من رحم المكرمات الغزیرة والمآثر الحمیة، ورث عن ابیه وأجداده زوادة الأصالة والشموخ لینثرها عبقاً زکیاً عبر أزمنة التاریخ.
عمار في الحقیقة تلك الدرة النادرة التي یخبؤها الفرد لصوادم الأیام.
کان کأبیه يملك إخلاصاً عالیاً، وشجاعة یشار إلیها بالبنان وفهماً وبصیرة أذعن من خلالهما إلی أهمیة الجهاد ونصرة الحق، هذه الغرسة المتوارثة التي أبی إلا أن یشذبها وینمیها ویطورها لتبلغ ذروتها یوم عاشوراء، تلك الملحمة البطولیة التي ظلت أجیجها تحرق کل متغطرس عبر الدهور.
لازم (عمار بن حسان بن شریح الطائي) الإمام الحسین (ع) وصحبه من مكة إلی کربلاء في طریق العروج إلی الخلود ورسم أبجدیة البقاء. لم یتزلزل قید أنملة حتی بلغ معه وادي نینوی.
راحت شمس الصیف اللاهبة تبعث بكببها نحو الصحراء، لا تكف عن الوهج الصاخب
والحارق کل حین.
کان الوجوم یخیم علی المكان ویكسو وجوه الجیش المتواضع للحسین (ع)، بینما لفحات الموت تخالط کل شعاع صادر من الشمس دون مجاملات.
وقف علیه السلام للمرة الأخیرة خاطباً في أصحابه یعرض لهم خیار البقاء أو الإنصراف عن هذا الأمر فالموت فیه محتم لا محالة، ولكنهم کانوا کالجمرة التي تأبی الخمود، لا ترضی إلا بالانصهار في بوتقة الفضیلة حیث قال عنهم الإمام (ع): (إني لا أعلم أصحاباً أوفی ولا خیراً من أصحابي)، بلغت روح الحرب فیهم ذروتها، وغمرتهم واحتقنت فیهم فلا تهدأ حتی تفجرهم کدروع بشریة في سوح الوغی.
قرعت الطبول لتطنطن في آذان الثكالی حكایة الروح السلیب.
انفجر في قلب عمار شلال حقد ناري، کل شئ کان حاضراً الشمس والضراوة والحیرة في عیني سید الشهداء وحبات العرق المتساقط من جبینه، ولهاث العطش البغیض وماء الفرات المتدفق کبطون الحیات.
غیر أن وحشة الأرض هنا، واتساع الغطاء الرملي الهش المتطایر وانعدام الزرع وحمرة الدماء ومكر القادة وخفاء الناس وبعد القری جعلت صدره ضیقاً کمساماته العطشی.
هب الفرسان من کل الجهات مسرعین إلی الأمام وصار الإستشهاد سید الأعنة.
اختلطت القامات والأصوات وسط معمعة الساحة.
کانت ساعات الجحیم قاسیة لا ترحم، والحشود المتكالبة مسرفة في الرعب.
بشهوة القتال الموروثة في جیناته هب نحو المیدان فأبدع في القتال.
اندفع عمار نهماً شرساً لا یتوانی ولا یضعف، لا یهدأ کللاً ولا مللاً حتی حمل الشمر اللعین حملته الغادرة نحو عسكر ابي عبد الله الحسین علیه السلام عن الیمین والشمال رشقاً بالنبال عن بعد، فأصاب کوکبة من الأصحاب بین قتیل وجریح، وهي التي عرفت بالحملة الأولی وکان بین الشهداء آنذاك (عمار بن حسان الطائي) کما یروي ابن شهر آشوب في المناقب.
توالي المكرمات:
وهب الشهید ذریة صالحة، حملت البیرق من بعده، فیهم الكثیر من العلماء الذین شهد بفضلهم أرباب العلم والمعرفة، منهم (احمد بن عامر الطائي)، وولده عبد الله.
کان (احمد بن عامر بن سلیمان) الذي یرجع نسبه إلی (عمار بن شریح) من أصحاب الإمام الرضا (ع) وقد تشرف بروایة صحیفة الإمام الرضا (ع) بعدة مسانید ذکرها الشیخ الصدوق
والنجاشي والطوسي في کتبهم المعتبرة.
بین البقاء والفناء، یختار الكرام القلة من البشر البقاء، رافضین الانسلال في العدم والاضمحلال، یختارون العلو فوق القمم کالنسور، محلقین دوماً، رافعین اللواء في لیلة ظلماء لیدلوا الطریق لمن أراد العزة والشموخ.
اضافةتعليق
التعليقات