أيدري الفجر أن طلوعه هذا هو الأخير على الأرض وهي تتشرف بخطوات الإيمان كله على حبات ترابها؟!
نعم إنه آخر فجرٍ يُسمع فيه صوت اليقين يصدح بالتكبير والتهليل ويردد الشهادة مؤَذِنًا داعيا للصلاة، فبعد دقائق معدودات سيغدُر النفاقُ كله بالإيمان كله _ كما لقبه سيد البشر _ ويرديه صريعًا في أقدس الأماكن وأشرفها، وفي وضعية التسليم المطلق للخالق جلا وعلا بالعبودية والطاعة، وكأني به يناجي ربه [إلهي ما عبدتك خوفا من عقابك ولا طمعا في ثوابك، ولكن وجدتك أهل للعبادة فعبدتك] ومن كعلي في سجوده وعبادته التي لا يتمثلها إلا الحر الشرف، كيف لا يُغتال في سجوده والنفاق والمنافقون أجبن من أن يتقابلان وجها لوجه مع فارس بدرٍ وأحدٍ وحنينٍ، مع من جندل الفرسان في الخندق وبيديه اقتلع باب حصنٍ عجزت عنه أكف عشرة أبطالٍ في خيبر.
إذًا لا سبيل لأعدائه إلا الغدر فلا سيف وقف في وجهه، إذ السيف ينبو عن هامه _ لو تجرأ وشُهِر _ ولا رمح تطاول واقترب منه.
في حالٍ من السكون والتسليم والطمأنينة، أتته ضربة مشؤومة بسيف مشرب بالسم، فكانت نافذة إلى عمق دماغه، إذ الهدوء والطمأنينة والأنس في لحظات الانقطاع التام للمحبوب والمعبود، تُرخي الأعصاب وتُلين عظام الهامة .
فهل تبدلت الطمأنينة إلى ذعرٍ أم تحول السكون إلى صراخ؟
كلا وحاشا وياللعجب ما كان جواب المطمئن إلى من غدر واغتال، إلا تأكيدًا على أن هذا العظيم الاستثنائي يبقى استثنائيًا حتى هنا، فكان الخلود للموقف متمثلًا في الكلمة "فزت ورب الكعبة ".
نعم فهو من تجسد التسليم ناطقاً في تكبيره، وشَخَصَ اليقين حاضرا في قراءته، وتحرك الخضوع والخشوع في ركوعه وسجوده.. وتمثل الإيمان شاخصا في تشهده.. فكيف لمن ائتم بصلاته أن لا يذوب حسرة وألمًا لمصابه؟
وكما وصايا المسيح لحوارييه في آخر لقاءٍ - قبل أن يُرفع للسماء - جاءت تأكيدًا على كل القيم والمعارف والأفكار والعقائد التي آمن بها ودعا إليها، كانت وصايا سيد الموحدين في فجره الأخير لأبنائه وأحبته :
(يا بني عبد المطلب: لا ألفيكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلن بي إلاّ قاتلي، انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا يُمثّل بالرجل فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور")..
نعم فصوت العدالة الانسانية يُبقي ميزان العدل قائما، حتى مع فداحة مصابه وضراوة آلامه. ونقرأ في جزء من وصاياه (أوصيكم بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام، وإن البغضة حالقة الدين ولا قوة إلا بالله، انظروا ذوي أرحامكم فصلوهم يهوّن الله عليكم الحساب. الله الله في الأيتام لا تغبوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: من عال يتيما حتى يستغني أوجب الله له الجنة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار).
أي إنسانٍ هو علي بن أبي طالب! ..أرق من النسمة الباردة مع الأيتام و الضعفاء.. وأشد وأصلب من زبر الحديد مع الطغاة والمردة.
إنّ كل من قرأ سيرة علي الإنسان هام بهذا النموذج الأوحد بلا مثيل ولا نظير، فهل يملك أي إنسانٍ طيب النفس، نقي السريرة، محبًا للخير و يمقت الظلم والعدوان ثم يسمع بعلي.. بعدل علي.. بنبل علي وانسانيته.. وببطولة علي إلا أن يذوب عشقًا لعلي وتغنيًا بحب علي.
اضافةتعليق
التعليقات