لم يكن يملك سوى القليل من النقود حينما دخل السوق الزاخر بالخضروات والفواكه, اتجه صوب البائع إلا انه عجز من شراء ما طلبته أمه العجوز الكفيفة, ابتاع على قدر ماله ما يستطيع, وعاد أدراجه يجر خلفه أذيال الخيبة, دلف إلى البيت سمع صوت أمه الواهن تناديه:
(هل أحضرت ما طلبته منك يا ولدي) انحدرت دمعات من عينيه رغم محاولته اليائسة بتثبيتها في المحاجر فقال لها: "اعذريني لم يكن بمقدوري شراء ما تبتغيه"..
ربتت على كتفه واسترسلت قائلة: "لا عليك غدا رمضان وسنكون في ضيافة الرحمن".
اتكأت على عكازها لتتم صلاتها, إن الجوع ينهكها وعمله لا يسد اجر البيت ودوائها وقوت زوجته وعياله, كان يراقب مناجاتها في محرابها بقلب يقطر أسى... في لحظات كثيرة كانت صورة أمه وعياله تلح على ذهنه حينما يراهم يرتجفون في ليالي الشتاء فالغطاء لا يقيهم من برده, أو يتضورون جوعا دون أن يشتكوا فيكون النوم هو ملاذهم الوحيد.. الكثير من الصور تهاجمه وتزعزع صبره المنيع فيستعد لصد غاراتها بآيات يستدعيها من الذاكرة، ويغشى نفسه برد من اليقين بأن الرحمن معه ولن يخذله, لقد بارك الله في رزقه هذا اليوم وباع الكثير من الحاجيات في بسطته التي يفترشها على أرضية السوق الصغير في قريتهم..
عادا أدراجه مبتهجا لانه استطاع شراء ما طلبته والدته وأطفاله أيضا, وقال في سره: "انه رمضان ستكون أيامه مرزوقة و مباركة".
هم بالعودة باكرا من اجل تحضير وجبة الإفطار, وأسرع بخطاه وما أن هم بقرع باب بيته حتى استقبله أطفاله بحفاوة وهم يهتفون: "أبي انظر ما لدينا".
كانت الفرحة تغمرهم فتشيع وجوههم الغضة بهجة, واخذ كل يوم يتكرر هذا المشهد الدرامي لينسج حياة الأسرة بخيوط الفرح والأمل بأن مائدة الرحمن لن تخلوا فهم في ضيافته، اذ عمد الجيران المحيطون بالتناوب بإرسال مائدة الإفطار لبيتهم كل مساء..
ما كانت تغادر أمه العجوز محراب صلاتها فالليل والنهار لديها سواسية, تقطع وقتها باستماعها إلى القرآن حيناً، وبالتسبيح حيناً آخر..
دخل ذلك المساء وقد رأى إن ما أرسله جار لهم بقي كما هو، سأل بدهشة: ما بالكم.. لماذا الطعام على حاله؟
أجابته والدته: "لقد أعدت زوجتك لنا وجبة الإفطار وما أرسله الجيران اليوم فائض عن حاجتنا, طلبت من الأولاد أخذه إلى جارتنا التي في أطراف القرية فهي أرملة وأم لخمسة أطفال لربما لا تملك ما يسد رمق جوع عيالها".
قال: "لنتركه ليوم غد نتزود به".
امتعضت العجوز الكفيفة من قول ولدها واستطرقت قائلة: "ويحك ولك دراية بأن تعيش للصباح؟!.. سيأتي رزق الغد معه فالرزاق حي ان اطال الله بعمرنا... يا ولدي اعلم إن الصيام لتهذيب أنفسنا.. نصوم لأنه عبادة تجعل أرواحنا بعيدة عن كل الشهوات أمامك الطعام ولا تأكل.. تشعر بالعطش ولا تشرب يمكنك أن تشرب فلا أحد يراك, إلا ان نفسك تأبى ذلك.. فحينها تكون قد وصلت لمرحلة تقتنع بها أن صيامك هو التزام بطاعة الله وتقرباً منه وهو عبادة محببة له، وهو شيء يجعلك أكثر قرباً مما كنت عليه سابقاً, وهو رسالة تقول لك تستطيع أن تلتزم بأوامر الله بأمور دنيوية أنت بحاجة لها, اذ يمكنك بكل سهولة ان تلتزم ببقية أحكامه, فالصيام هو تعليم للإرادة والقناعة, وهناك أجراً جعله الله مفتوحاً لك حين تصوم، عندما قال "الصيام لي وأنا أجزي به" يا بني إن الصوم ليس طعام وشراب بل هو رحلة في تهذيب النفس, فلا تفكر بالغد وما سنتناوله لأننا سنكون في ضيافة الرحمن.
اضافةتعليق
التعليقات