من فلسفة التاريخ أن التغرب والهجرة هي من عوامل تفجّر الطاقات، وتحريك الأمم، وبزوغ الحضارات، ونمو المواهب، ولذلك لم يعترف الإسلام بالحدود الجغرافية، إذ إنها تحد مسيرة التكامل، وعلى عكس ذلك، نجد القوانين الوضعية، تؤكد مثلاً واستناداً لقوانينها التي ما أنزل الله بها من سلطان أنه لا يسمح للأفغاني أن يكون رئيساً لإيران، ولا الباكستاني أن يكون رئيساً في العراق، بينما في إطار المرجعية الإسلامية من الممكن أن يكون المرجع الديني رجلاً من أي بلد إسلامي، ويمكن أن يكون ضمن شورى الفقهاء أشخاص من باكستان، وإيران، وأفغانستان، والعراق، ففي تاريخنا المعاصر لاحظنا كيف أصبح الآخوند الأفغاني مرجعاً في إيران، والسيد اليزدي مرجعاً للعراق، وهذه القاعدة ليست حصراً على المرجعية، فالمتقدم يتقدم حتى في غير مجال الحكم، كمجال الاقتصاد، والجيش، وما أشبه ذلك، سواء كان المتقدم حقاً أم باطلاً. فليس التمايز باللغة، أو القومية، وما أشبه ذلك.
ونذكر مثال ذلك في التاريخ الاسلامي في مختلف مناحي الحياة كسلمان الفارسي، حيث اختير حاكماً للعراق، وابن عباس العربي، حيث اختير حاكماً لإيران وذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعده، وظلت هذه القاعدة جارية حتى ما قبل قرن من الزمان، حيث كان الأمراء – إلى حد ما – يعينّون على أساس الكفاءة وليس على أساس اللسان واللون. ولكن عندما دخلت الأفكار الغربية بلاد المسلمين تغير هذا المنهج.
لذا نجد كثيراً من المفكرين الغربيين، يؤكدون على جذب الغرباء، ونشاط المغتربين، وحيوية الأقليات، التي يميز بها أهل العلوم الاجتماعية بعض مؤسسي الامبراطوريات، والدول والعقائد والأشكال، وهي تكاد تتحول بسبب الاغتراب الجغرافي، أو الاجتماعي، أو النفسي إلى الطاقة الاقتحامية غير العادية.
ولا عجب في ذلك، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن لسان الله سبحانه وتعالى: "وضعت العلم والحكمة في الجوع والناس يطلبون في الشبع"، وفي الحديث القدسي أن الله عز وجل قال: "إني جعلت العلم في الجوع والغربة والناس يطلبونه في الشبع والوطن فلا يجدوه"، وذلك لأن الإنسان المغترب والجائع أكثر اندفاعاً إلى طلب الشيء من غيرهما. وهذا هو سبب التقدم لا بالنسبة للعلم بل في كل مجالات الحياة.
ولا عجب، فقد اغترب أكثر الأنبياء وتغربوا، وقد كان النبي إبراهيم عليه السلام عراقياً لكنه بلغ في غير العراق، ومثل اغتراب الانبياء، موسى، ويوسف، وعيسى، اغتراب نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم فقد هاجر من مكة إلى المدينة.
وجان جاك روسو هو مفكر سويسري؛ قاد الشعب الفرنسي فكرياً إلى الثورة، وماركس مفكر ألماني، طرح نظريته في روسيا، وقبلهما كان آريوس، بطل الثورة الدينية في بيزنطا، وهو في الأصل من ليبيا...
وبالهجرة وفر الإسلام مناخ التسامح، والتفكير، والتأمل، والإبداع، لعشرات المفكرين والفلاسفة من غير العرب..
ومثل الغرباء، كان هناك المغتربون، من هو سيئ من الذين هاجروا من فرنسا، حيث عمل هناك، فانتقل إلى بلاده، وبدأ بالثورة هناك.
والقاعدة لا تنطبق على المصلحين فحسب بل وتشمل المفسدين أيضاً الذين ملؤوا البلاد فساداً، فقد ذكر الأدباء أن المثال يقرّب من جهة، ويبعد من جهة، وهذا هو فلسفة ما قاله الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "اطلبوا العلم ولو بالصين"، وقبل ذلك قال عيسى المسيح عليه السلام: "الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها مثل الجوهر في فم كلب"، فإن الإنسان إذا أراد أن يأخذ الجوهرة لا ينظر إلى الظرف، وإنما ينظر إلى قيمة الجوهرة.
أمّا التقيد بالقومية، واللغوية، والجنسية، ونحوها، فذلك مما يحد من نشاط المصلحين، ويوجب تقديم المفضول على الفاضل، والفاضل على الأفضل. ففي الحديث: "إن مثل هؤلاء لا يزال أمرهم إلى سفال".
اضافةتعليق
التعليقات