فرحة حلت في بيت الرسول الأكرم، جاء الأمين مستبشراً مهنئاً آل الرسول بمولد من تقف في وجه اﻷعداء وتفضح كفرهم وحقدهم على الرسول وآله الأطهار.
فلما حملت فاطمة وليدتها إلى أمير المؤمنين عليهم السلام قالت له: «سم هذه المولودة» فأجابها الإمام بأدبٍ وتواضع «ما كنت لأسبق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» وعرض الإمام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسميها فقال له: «ما كنت لأسبق ربي» فهبط رسول السماء على النبي صلى الله عليه وآله فقال له: (سمي هذه المولودة (زينب) فقد أختار الله لها هذا الاسم وأخبره بما سوف تعانيه حفيدته من أهوال الخطوب والكوارث) فأغرق هو وأهل بيته في البكاء. زينب الكبرى للشيخ جعفر النقدي، 18.
هناك قولان في معنى كلمة زينب. الأول أن "زينب" كلمة مركبة من زين وأب. أما الثاني فهو أن "زينب" كلمة بسيطة وليست مركبة، وهي اسم لشجرة أو وردة. وهذا ما صرح به مجد الدين الفيروزآبادي في القاموس المحيط، بقوله: ”الزَّيْنَبُ: نبات عشبيٌّ بصليّ معمّر من فصيلة النرجسيات، أزهاره جميلة بيضاء اللون فوّاحة العرف، وبه سُمِّيت المرأة“.
جاء التعبير عن زينب في بعض المصادر التاريخية، وعلى لسان بعض الخطباء والمؤلفين بـ”العقيلة“، والعقيلة وصف لها وليس اسماً، فيقول أبو الفرج الأصفهاني: ”العقيلة هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة في فدك، فقال: حدثتنا عقيلتنا زينب بنت علي“.
وللعقيلة معاني عديدة في اللغة، فمنها: المرأة الكريمة، والنفيسة، والمُخَدَّرة. ويقول ابن منظور في لسان العرب: ”عقيلة القوم: سيدهم، وعقيلة كل شيء: أكرمه“. كما يقول الفيروزآبادي في القاموس المحيط: ”العَقِيلَةُ: الكريمة من النساء.- الرجل: زوجته، تستعمل في المواقف الرسمية بخاصة؛ وجَّه الرئيس وعقيلتُه الدعوةَ إلى رئيس الدولة الصديقة وعقيلته.-: سيِّد القوم؛ كان عقيلةُ القبيلة كبيرَها سنًّا وعقلاً، ج عقائل“.
إمرأة امتلكت شجاعة فاقت بها حتى الرجال، وقفت بوجه الأعداء، تحملت مالم يتحمله حتى الأنبياء فقد ظل النبي يعقوب عليه السلام يبكي ويندب حتى ابيضت عيناه من الحزن على فراق ولده وهو يعلم بكونه حياً، وكذا النبي يونس عليه السلام لما لم يتحمل من قومه الجهل والظلم فقد قال تعالى: {وإنَّ يونُسَ لَمِن المُرسلين(139) إذ أَبَقَ إلى الفُلْكِ المَشحون(140) فساهَم فكان من المُدْحَضين(141) فالتَقَمَهُ الحُوتُ وهو مُليم(142) فلولا أنَّه كان من المُسبِّحين (143) لَلَبِثَ في بطنهِ إلى يوم يُبعثون(144)}.
بينما نرى موقف سيدة الصبر وقد مر بها ما لم تتخيله ولا تدركه العقول، وقد رأت أولادها واخوتها وبني عمومتها أمامها مقطعين جارت عليهم أراذل الخلق ممن لا يفقهون (إن هم كالأنعام بل أضل) فوقفت بكل ثبات ورضا وتسليم منقطع النظير لخالقها العليم.
فعندما وقفت عند أخيها سيد الشهداء صلوات الله عليه ورفعت بطرفها إلى السماء فقالت: ربنا تقبل منا هذا القربان..
ويا له من موقف عظيم عندما واجهت ابن زياد عندما وجه إليها الكلام حين أدخلوا عليه القصر في الكوفة، فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَحَكُمْ وَ أَكْذَبَ أُحْدُوثَتَكُمْ !
فَقَالَتْ : إِنَّمَا يَفْتَضِحُ الْفَاسِقُ ، وَ يَكْذِبُ الْفَاجِرُ ، وَ هُوَ غَيْرُنَا .
فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ : كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَخِيكِ وَ أَهْلِ بَيْتِكِ ؟
فَقَالَتْ : مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلًا ، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ، وَ سَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَ تُخَاصَمُ ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلْجُ (يعني الظفر والفوز) يَوْمَئِذٍ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ مَرْجَانَةَ .
نعم، هذه هي عقيلة الطالبين كان لها دور كبير في فضح الطغاة وبيان أكاذيبهم وفسقهم حتى خاف يزيد اللعين على ملكه وعرشه من الزوال بسبب قوتها وموقفها العظيم فقد أكملت مسير أمها في بيان الحق وكشف الباطل (إن الباطل كان زهوقاً).
فعندما دخلوا على يزيد أمر برأس الحسين فوضع بين يديه، وأخذ ينكث ثنايا الحسين بقضيب خيزران بيده، فأثار هذا المشهد غضبها ومشاعرها فقامت وخطبت في مجلس يزيد معلنة انتصار الحق، ونهاية الحكم الأموي حيث ردت عليه بكل شجاعة وإباء مستصغرة قدره وسلطانه، ومستنكرة فعلته النكراء وقالت: "أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الارض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تساق الإماء... أنسيت قول الله تعالى : وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ. أمن العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك وامائك وسوقك بنات رسول الله سبايا،...."
و من خلال خطبتها العصماء بيّنت للناس الغافلين الحقائق، وفضحت أفعال بني امية وجرائمهم، وكشفت الزيغ والأهواء التي ركنوا إليها.
وتحلت بالعلم والمعرفة التي ورثتها عن آبائها الأطهار (محمد وعلي وفاطمة صلوات الله وسلامه عليهم)
وقد ذكر أهلُ السِّيَر أنّ العقيلة زينب عليها السّلام كان لها مجلس خاصّ لتفسير القرآن الكريم تحضره النساء،
حيث ذكر السيّد نور الله الجزائري في كتاب "الخصائص الزينبيّة " أنّ السيّدة زينب عليها السّلام كان لها مجالس في بيتها في الكوفة أيّام خلافة أبيها أمير المؤمنين عليه السّلام، وكانت تفسّر القرآن للنساء. وفي بعض الأيّام كانت تفسّر "كهيعص " إذ دخل عليها أمير المؤمنين عليه السّلام فقال لها: يا قرّةَ عيني، سمعتكِ تفسّرين "كهيعص " للنساء، فقالت: نعم.
فقال عليه السّلام: هذا رمز لمصيبة تُصيبكم عترة رسول الله صلّى الله عليه وآله. ثمّ شرح لها تلك المصائب، فبكت بكاءً عالياً.
كيف لا تكون كذلك وقد قال فيها ابن أخيها الإمام المعصوم علي بن الحسين السجاد عليه السلام: (ياعمة...أنتِ بحمد الله عالِمة غير معلّمة و فهمة غير مفهمة).
وهذا أقل ما يذُكر عن سيدة أعجزت العقول عن فهم صبرها، وكانت كوالدتها بضعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في دفاعها عن إمام زمانها، ووقوفها بوجه الباطل، فبدورها الكبير أوصلت صوت الإسلام الحق وبينت أهمية دور النساء الكبير والمسؤولية التي تقع على عاتقهن، في تنمية ذواتهن وتقوية أنفسهن ومواجهتهن لمصاعب الحياة وبيان الحق والتزامه والوقوف بوجه الباطل، وتنشئة الجيل الصالح الذي يهُب لنصرة الحق ويثبت في طريقه.
اضافةتعليق
التعليقات