تالين، فتاة تصارع الموت كل يوم.. وحيدة في غرفة المشفى المطلّة على الشارع في الطابق الخامس والعشرين.
قبل ان تصاب بهذا المرض كانت فتاة حيوية مفعمة بالنشاط، حظيت بحياة رائعة مليئة بالحب.. عاشت كل لحظة وثانية بسعادة فائقة، لم يكن هناك شئ لم تجرّبه من مغامرات وسفر برفقة أفضل الأصدقاء و الاهل، تأكل اشهى المأكولات وتلبس اجمل الثياب واغلاها، ربما عاشت حياة باكملها في عمر قصير..
تساءلت، ربما كان هذا السبب في ان تنتهي حياتها في هذا العمر الصغير، بقيت هذه الافكار تراودها كل ليلة بعد ان يودّعها اهلها وصديقاتها حتى اصبحت هذه الافكار هاجسها الوحيد الذي تشغل بها نفسها كل ليلة، ماذا لو كانت هناك طريقة اخرى، ماذا لو عشت حياتي بطريقة مختلفة هل كنت سأصل الى نفس النهاية؟!
وبينما تناقش نفسها ككل ليلة فجأة هبّت رياح عالية.. فتحت الباب على مصراعيه فإذا برجلٍ برداء اسود يقف امام النافذة بكل جبروت، لم تستطع ان تراه بوضوح تام.. كان يحيط به الظلام من أربع جهات..
تسارعت نبضات قلبها لم تستطع التنفس حاولت الصراخ ولكن دون جدوى، اختفى صوتها من شدة الهلع، مدّت يدها في محاولة للوصول نحو زر الطوارئ وبينما هي تناضل في ايجاد طريقة مناسبة للهرب، قاطعها قائلا: فلتهدئي الان ولتنظري نحو النافذة.. ماذا ترين؟
فتحت فمها وتمتمت ولكن لم تخرج الكلمات حتى طقطق باصابعه قائلا: تستطيعين التكلم الان.. قالت بصوت مرتجف مرتعب: هل اتيت لكي تأخذ روحي؟!!
اجاب: ربما نعم، وربما لا وواصل حديثه.. فلتنظري بتمعّن الى النافذة المقابلة لنافذتك، هناك في العمارة المقابلة للمشفى.. ماذا ترين؟
نظرت بتمعّن فرأت فتاة في عقدها الثاني.. بشعر ذهبي طويل تجلس على طاولة مهترئة تأكل بقايا خبز يبدو عليه العفن، اجابت: آه كم هو جميل شعرها، لم ارَ شعر جميل مثله منذ ان فقدت كل شعري بسبب العلاج الكيميائي.
قال: انظري مجددا ماذا ترين؟
اجابت بعفوية: تبدو بشرتها رائعة وصحيّة انظر الى تلك الوجنتين وتلك العينين، ثمّ لمست شفاهها المتيبّسة وقالت: انظر الى شفتيها الممتلئتين..
قال: اهذا كل ما ترين؟!
اجابت: نعم.. وماذا غير ذلك؟!!
قال: عجيب امركم ايها البشر لاترون في غيركم سوى ما تفتقدوه في انفسكم وترغبون في الحصول عليه، ثم اكمل: الم تري كم هي بائسة و حزينة؟
على عكسك تماما، تلك الفتاه تنتظر الموت بصمت بعد ان عجزت عن ايجاد طرق السعادة في الحياة، منذ ولادتها والى يومها هذا لم تحظَ بلحظة سعادة ولم ترتسم البسمة على شفتيها الجميلتين، قاطعت حديثه ساخرة: مؤكد ستجد السعادة في يوم ما..
اجاب: كلا لن تجدها، فالقدر رسم لها طريق البؤس مدى الحياة..
اجابت: العيش في بؤس افضل من الموت سريعا، اتمنى لو كنت في مكانها..
قال: هل ترغبين ان تأخذي مكانها؟!!
اجابت: لمَ لا.. هي لاتريد الحياة وانا اريد فرصة للحياة.
_اذاً هل ترين هذا عدلاً؟
_اجابت ساخرة: يبدو عدلاً بنظري..
اجاب: لكِ هذا واختفى تاركا خلفه ورقة مكتوب عليها: لاتندمي على اختيارك..
استيقظت تالين في الصباح لتجد نفسها نائمة على فراش قديم مهترىء ركضت نحو المرآة لترى نفسها لم تصدق مارأته اخذت تلتمس وجهها، وجنتيها، شفتيها، وشعرها الطويل اللامع اخذت تقفز وتصرخ فرحا خرجت مسرعة تركض في الشوارع..
مضت مدة طويلة منذ اخر مرة وقفت فيها على قدميها بعد رقودها طويلا في المشفى اخذت تتجول وتقفز في كل مكان حتى زقزقت عصافير معدتها، اه انه الجوع، رأت حافلة سندويش ركضت مسرعة نحوها واخذت تطلب كل مايحلو لها، مدّت يدها في جيبها لم تجد سوى درهم واحد..
صرخ بها البائع: ان لم يكن لديك مالاً لماذا تضيعين وقتي هيا تنّحي جانبا وافسحي المجال للزبائن انتِ تسدين الطريق..
قالت: ولكني جائعة ماذا يمكنك ان تعطيني؟ ردّ عليها: بدرهمك هذا يمكنك الحصول على رغيف خبز فقط خذيه وارحلي من هنا.
اخذته وعادت الى المنزل وهي تشعر بالمرارة، وعندما وصلت الى المنزل كان قد حل الليل وازدادت برودة الجو، لم يكن هنالك أي مصدر للضوء، اكتفت بشمعة لتضىء بها ظلام الغرفة، إستلقت على السرير وتغطّت بشرشف قديم مهترئ، اتخذت وضعية الجنين في رحم امه في محاولة لتدفئة نفسها.
في صباح اليوم التالي استيقظت اقل حماسا بسبب الجوع.. اتجهت نحو منزلها القديم لتقابل عائلتها ولكن لم يتعرف عليها احد! حتى طلبوا لها الشرطة ظنا منهم انها اما متشردة او مجنونة، عادت الى المنزل خائبة والدموع تملئ عينيها قضت ليلة اخرى تعاني فيها من الجوع، وفي صباح اليوم التالي نزلت الى الشارع تراقب الناس في محاولة لتعلم طريقة لكسب لقمة العيش وبعد عدة محاولات من التوسل والترجّي لأصحاب المحلات والمطاعم الخاصة في الوجبات السريعة نجحت في الحصول على وظيفة مؤقتة في غسل الصحون ومسح الارضية وتوصيل الطلبات حتى يحل الليل لتعود الى المنزل مرهقة، معها من الطعام مايكفي لسد جوعها..
توالت الايام على هذه الحال وبعد مضي ثلاثة شهور من المعاناة نظرت الى جدران الغرفة ولم تجد حولها سوى الوحدة واليأس والألم وقلة الحيلة نزلت الدموع على خديها واخذت تضرب على صدرها وانهارت بالبكاء، حينها فقط عرفت معنى انتظار الموت بصمت وقناعة.
في صباح اليوم التالي تتبعت خطيبها حتى وصل إلى المشفى فاذا به يلتقي بالفتاة الفقيرة من النافذة المقابلة، امسك بيديها وجلسا قرب النافذة كانت السعاده بادية على وجه كل منهما كان يمزح معها وتعالت اصوات ضحكاتهم في ارجاء المشفى..
خرجت من المشفى والدموع تتساقط من عينيها فاذا بها ترى والديها، فرحت كثيرا مسحت دموعها، وقفت تراقب والديها من بعيد وبينما يعبران الشارع المقابل للمشفى فاذا بشاحنة مسرعة تأخذ حياتهم بسرعة البرق امام عينيها، لم تصدّق مارأته حتى سالت دمائهم لتصل الى قدميها..
انهارت في لحظتها تلك، واخذت تصرخ كالمجنونة.. سقطت على الأرض ثم خيّم الظلام الدامس ليظهر صاحب الرداء الاسود، نظرت اليه بعينين حمراوتين وبصوت مرتجف قالت:
هل كان من الضروري ان تاخذ حياتهم..
اجاب: لقد توفي والدا فتاة النافذة امام عينيها في سن الثامنة عشر في حادث مشابه لحادث اليوم بل تماما كما حدث اليوم، الم ترغبي في عيش حياتها، اذاً لماذا تعترضين الان؟
ضمّت اصابع يديها بقوّة حتى غرست أظافرها في يديها من شدة القبضة، سحبت قدماها ببطىء، وقفت امامه وصرخت بأعلى ترددات صوتها: فلتأخذ حياتي بدلا منهما اعدهما الى الحياة.
ولكنه لم يحرّك ساكنا ولم تظهر على وجهه اي تعابير ندم بل رمقها بنظرات حادّة كالسكين فما كان منها سوى ان تمسك بمعطفه الاسود وتسقط على الارض تترجاه بدموع مريرة: اتوسل اليك اعدهما الى الحياة، انا نادمة انا مستعدة للرحيل فقط اعدهما، ردّ عليها: اعادتهما الى الحياة امر لا استطيع القيام به، لكن استطيع اعادة الحال الى ماكان عليه..
ثم اكمل ساخرا: انتِ لن ترغبي في العودة الى الفتاة المريضة طريحة الفراش! أجابته بسرعة: نعم نعم أرغب وسأنتظر الموت بسعادة ايضا ان كان سيعيدهما الى الحياة.
_حسنا ولكن اعلمي هذه فرصتك الاخيرة، لن يكون هنالك مجال للتراجع، ثمّ اغلق عينيها بيديه.. استيقظت لتجد نفسها على الفراش في المشفى.. كانت فرحة جدا رغم عودتها للمرض احتضنت جميع اصدقائها وعائلتها، وعندما حلّ الليل طلبت من والدتها ان تبقى بجانبها حضنت والدتها واغمضت عينيها بهدوء..
استغربت والدتها وقالت لها بعفوية: لقد مرّت فترة طويلة منذ ان سمحت لي باحتضانك هكذا! ما الامر هل هنالك خطبا ما؟!
فردّت تالين على أمها بصوت شجي: امي هل تعرفين، انا اكثر انسانة محظوظة في هذه الحياة، مسحت والدتها دموعها بسرعة قبل ان تسقط على رأس تالين..
_ولماذا انت محظوظة ياابنتي؟
_أنا محظوظة لانكِ امي، وهنا ازداد تدفق الدموع في عيون الام، نهضت تالين ومسحت دموع والدتها..
_امي هل تحققين لي امنية؟
_ماهي... اطلبي اي شي وسأحققه لك..
_حقا اي شئ ياامي هل انتِ جادة!
_اجل بالطبع..
_لايمكنك ان تغيري رأيك بعد سماعه؟
_حسنا ايتها الشقية الا تثقين بكلام والدتك..
_حسنا حسنا امي انظري الى النافذة المقابلة هل ترين تلك الفتاة البائسة، تدعى لمار، امي عديني انك ستهتمين بها كانها ابنتك ارجوك امنيتي ان تجعليها فردا من عائلتنا، لم يكن امام الام سوى ان تحقق طلب ابنتها الاخير.
وبالفعل تم احتضان لمار من قبل عائلة تالين وحظيت لمار اخيرا بالعائلة التي كانت تفتقد لها وسرعان ما اصبحت كل من تالين ولمار اعز صديقتين بل واكثر اصبحتا اختين تعوّض كل منهما نقص الاخرى، اصبحت لمار عينا تالين تقصّ عليها ماتراه من النافذة.. بينما تسرد عليها تالين مغامراتها، احبت تالين الحياة الجديدة وشعرت بنعمة وجود اخت لها ولكنها لم تنسَ ابدا موعدها مع الموت، ولكنها فوجئت بعد مضي عدّة ايام بالطبيب واقفا امامها والابتسامة تملئ وجهه وهو يقول لها بانهم قد وجدوا المتبرع المطابق..
انها معجزة والاهم من ذلك انها الفتاة التي انقذت حياتها بالمقابل. لقد وجدوا تطابق في نخاع العظم وسيجرون لها العملية خلال ايام.
في هذه الاثناء دخلت لمار وهي تبتسم بخجل جلست قربها على السرير وقالت: انا ممتنة لكِ بفضلكِ حضيت بعائلة واخت رائعة ولكن لااستطيع ان اخذ شيئا دون مقابل هكذا اعتدت ان اعيش حياتي..
اجرائي للتحاليل كان اقل شي يمكن ان اقدمه لكِ، ابتسمت تالين وقالت: بطريقة ما انا افهم شعورك قد لاتصدقين ولكن عشت تجربة مماثلة بفضل صاحب الرداء الاسود، انه مخيف حقا ولكن بطريقة ما استطاع ايصال الدرس رغم ان طريقته كانت قاسية قليلا..
ردّت الفتاة الفقيرة: هل قابلته ايضا؟
_ماذا هل تعرفينه؟!
اجل قبل ثلاثة اشهر زارني وقتها كان البؤس يتغلغل بداخلي وكنت اراقبك من النافذة بعيون ممتلئة بالحسد والغيرة، تمنيت ان احظى ولو ليوم بعائلة محبّة كعائلتك واصدقاء مرحون كاصدقائك، الان وانا افكر اعتقد ان الصورة اكتملت اعتقد ان القدر جمعني بكِ لكي تكمّل كل منا حياة الاخرى فما احتجتهِ متبرع وما احتجته انا هي العائلة.
ابتسمت تالين وقالت: انتِ على حق يتواجد بعض الاشخاص في حياتنا لسبب معين.. مااحتاجه ليس فقط متبرع بل اخت اتعلم منها كيف اتعامل مع الحياة بجديّة واتحمل المسؤولية، ابتسمت كل منهما ونظرتا نحو النافذة فاذا بصاحب الرداء الاسود يراقبهما من النافذة المقابلة ارتسمت على وجهه نصف ابتسامة ساخرة ثم اختفى!.
اضافةتعليق
التعليقات