جمعتهم وقدّمت لهم الحلوى والعصائر بعد ان باركت لهم قدوم الشهر الفضيل، في غرفة مزيّنة بفوانيس رمضان، واضواء ملوّنة تداعب بريق عيون الطفولة، هذه عادتها في كل عام مع ابناء الجيران، هي امرأة كبيرة في السن تبلغ السبعين عاما من عمرها تعيش مع زوجها امام مسجد الحي، بعد ان تقاعدوا من وظيفتيهما قرروا ان يعلّموا اطفال الحي قراءة القران، والاداب الاسلامية، حيث يعلمهم حفظ القران صباحا في المسجد الذي اسسه هو،
وهي تروي لهم حكايات اخلاقية يأنس بها الاطفال ويتعلمون من مغزاها دروس وعبر تغنيهم عن التجربة، وبدأت اعداد الاطفال تزداد يوم بعد يوم.
وبرنامجها في ليالي شهر رمضان،
كانت كل ليلة تبدء بمكافأة الاطفال الصائمين بهدايا تشجيعية وبعدها يبدأون بمراجعة ماحفظوه صباحا من القران، وبعدها درس اخلاقي من خلال اسئلة توّجه الى الاطفال وهم يجيبون، ثم توضح لهم ماخفي عليهم كي لايبدو كدرس فيمل الاطفال فتبتكر طرق مسلية لتعليمهم وتربيتهم.
ومن ثم تشرع بأخذ كتابها المعهود في كل عام لتقلّب اولى صفحاته الصفراء وتغوص في ذاكرة رمضان: حكايتنا في هذه الليلة يااولاد هي عن اميرة عاشت في زمن حاكم ظالم..
ولدت الأميرة الجليلة السيدة نفيسة بنت زيد بن الحسن المجتبى بن الامام علي (عليهم السلام) بمكة المشرفة سنة خمس وأربعين ومائة يوم الإربعاء الحادي عشر من ربيع الأول، وعاشت بالمدينة المنورة، عابدة زاهدة، صائمة النهار، قائمة الليل، غير مفارقة للحرم المطهر للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وكانت الاميرة مدمنة للحج مشياً فقد حجّت ثلاثين حجة أكثرها ماشيةً،
وكانت محبة للعلم طالبةً إياه متفقهةً فيه حتى لقِّبت بـ«نفيسة العلم» وهي ما تزال صغيرة السن لم تتزوج بعد.
وقد عرفت بكثرة العبادة، وقالت زينب بنت يحيى المتوج وهي ابنة اخ السيدة نفيسة: خدمت عمتي نفيسة أربعين سنة فما رأيتها نامت بليل ولا فطرت بنهار، فقلت: أما ترفقين بنفسك؟ فقالت: كيف أرفق بنفسي وقدامي عقبات لا يقطعهن إلا الفائزون.
تزوجت السيدة نفيسة من إسحاق المؤتمن بن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) كان من أهل الصلاح والورع والإجتهاد وقد روي عنه الحديث والآثار، وكان إسحاق قائلاً بإمامة أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) وقد روى عن أبيه النص على إمامة أخيه موسى الكاظم (عليه السلام).
وقد قيل فيه انه كان من أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمه أم أخيه موسى الكاظم (عليه السلام) وكان محدّثاً جليلاً.
لم يتركوا الاميرة العلوية وزوجها تعيش الى جوار جدّها فقد بدأ جلاوزة النظام يضيقون عليهم عيشهم، وهذا هو الواقع السياسي الذي عاشته الأمة الإسلامية يومها، وبخاصة العلويون وشيعة أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يتعرضون للضغوطات الكبيرة فقد قتل الكثير منهم واعتقل الكثير،
هذه الاسباب أدّت الى هجرة الكثير منهم من المدينة المنورة الى البلدان الأخرى، ولهذا السبب تقرر ان يرحلوا هي وزوجها عن مدينة جدهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومن جواره الى مصر وعز عليها فراق الحرم المطهر، وبخاصة وهي السيدة المعروفة بدوام زيارتها للحضرة المطّهرة وعدم فراقها إياها.
فهاجرت الى مصر وفي طريق هجرتها زارت قبر خليل الله إبراهيم (على نبينا واله وعليه افضل الصلاة والسلام) ويقال انها عرجت على قبر تلك الغريبة في غوطة الشام وزارت قبر عمتها زينب (عليها السلام).
ثم توجهت تلقاء مصر وسكنت بالمنصوصة ووصلت القاهرة يوم السبت السادس والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 193هـ ، ونزلت بدار إمرأة تدعى أم هانىء وقد قصدها الناس ملتمسين منها العلم والدعاء
ثم لم تلبث طويلا حتى ذاع صيتها بين اهل مصر وبدت كرامات السيّدة الجليلة تظهر لهم،
ومن كرامات السيدة نفيسة (عليها السلام):
نقل أنه كان بجوارها حينما نزلت مصر في دار جمال الدين عبد الله، التي اقامت بها عدة شهور، يهود من جملتهم امرأة لها ابنة مشلولة مقعدة لا تقدر على الحركة، فأرادت الأم أن تذهب إلى الحمام، فسألت ابنتها أن تأخذها معها فامتنعت، فقالت لها أمها تقيمين في الدار وحدك، فقالت لها أشتهي أن أكون عند جارتنا الشريفة حتى تعودين، فجاءت الأم إلى السيدة نفيسة واستأذنتها في ذلك فأذنت لها فحملتها ووضعتها في زاوية من البيت وذهبت..
ثم إن السيدة نفيسة توضأت فجرى ماء وضوئها إلى البنت اليهودية، فألهمها الله أن أخذت من ماء الوضوء شيئاً قليلاً بيدها ومسحت به على رجليها فوقفت في وقتها بإذن الله، وشفيت من الشلل وقامت تمشي على قدميها كأن لم يكن بها مرض قط، هذا والسيدة مشغولة بصلاتها مستغرقة في مناجاة ربها، ثم إن البنت سمعت مجيء أمها من الحمام فخرجت من دار السيدة حتى أتت إلى دار أمها طارقة الباب فخرجت الأم تنظر من يطرق فدخلت البنت وعانقت أمها وقبّلتها فلم تعرفها!!
لأن ابنتها مقعدة، فقالت لها من أنت فقالت أنا ابنتك، قالت : وكيف قضيتك؟ فأخبرتها بقصتها كاملة، فقالت الأم : هذا والله الدين الصحيح..
ليس ما نحن عليه من الدين، أي عن اليهودية ثم دخلت فأقبلت تقبّل قدم السيدة وقالت لها امددي يدك أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن جدك محمداً رسول الله، فشكرت السيدة نفيسة ربها عز ّوجلّ وحمدته على شفاء الطفلة المشلولة واسلام المرأة اليهودية.
ثم مضت المرأة إلى منزلها فلما حضر زوجها وكان اسمه أيوب وملقب أبو السرايا وكان من أعيان قومه، ورأى البنت على تلك الحالة ذُهل فرحاً، وقال لامرأته ما قصتها؟ فأخبرته فرفع رأسه إلى السماء وقال: سبحانك هديت من تشاء وأضللت من تشاء والله هذا الدين الصحيح ولا دين إلا دين الإسلام، ثم أتى إلى باب السيدة نفيسة فمر بخديه على عتبة بابها وأسلم وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن جدك محمداً رسول الله، ثم شاع خبر البنت وإسلامها وإسلام أبيها وأمها وجماعة من الجيران اليهود حتى استسلم اكثر قومهم من اليهود ودخلوا الاسلام ببركة السيدة نفيسة.
ومن كراماتها زيادة النيل: حيث توقف النيل عن الزيادة في زمنها فحضر الناس إليها شاكين ما حصل من توقف النيل فدفعت قناعها إليهم وقالت لهم: ألقوه في النيل فألقوه فيه فزاد حتى بلغ اللّه به المنافع.
ومن كراماتها إطلاق الأسير: فقد أسر ابنٌ لامرأة ذمّية في بلاد الروم فأتت إلى السيدة نفيسة وسألتها الدعاء أن يردّ اللّه ابنها عليها فلما كان الليل لم تشعر الذمّية إلاّ بابنها وقد هجم عليها دارها فسألته عن خبره فقال: يا أمّاه لم أشعر إلاّ ويد قد وقعت على القيد الذي كان في رجليَّ وقائل يقول: أطلقوه قد شفعت فيه نفيسة بنت الحسن. فوالذي يُحلَفُ به يا أمّاه لقد كُسر قيدي وما شعرت بنفسي إلاّ وأنا واقف بباب هذه الدار، فلما أصبحت الذمّية أتت إلى السيدة نفيسة وقصت عليها الخبر وأسلمت هي وابنها وحسن إسلامهما.
وظلت الاميرة العلوية في مصر بين اهلها حتى مرضت وحضرتها الوفاة وهي صائمة فتوسلوا اليها ان تفطر، فقالت: واعجباه منذ ثلاثين سنة أسأل الله أن القاه وأنا صائمة وأفطر الآن هذا لا يكون، ثم قرأت سورة الأنعام فلما وصلت الى قوله تعالى: (لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ)، فارقت روحها الطاهرة الحياة ومضت الى جوار ربها زاهدة عابدة مظلومة مغصوبة الحقوق كأجدادها الاطهار(ع) ودفنت في بيتها في قبر حفرته لنفسها.
وفي ليلة وفاتها اجتمع الناس من القرى والبلدان وأوقدوا الشموع، وسمع البكاء من كل دار بمصر وعظم الأسف والحزن عليها وصُلّي عليها في مشهد حافل لم ير مثله بحيث إمتلأت الفلوات والقبعات.
وأراد زوجها نقلها بعد موتها الى المدينة ودفنها في البقيع فسأله أهل مصر تركها عندهم للتبرك وبذلوا له مالاً كثيراً فلم يرض فرأى النبي (صلى الله عليه وآله) في عالم الرؤيا قال له: يا إسحق لا تعارض أهل مصر في نفيسة فإن الرحمة تنزل عليهم ببركتها.
نعم يااولاد توفيت الاميرة في الاول من رمضان في مثل هذا اليوم ودفنت كما قصصت عليكم في بيتها في مصر، واليوم لها قبة شامخة، ومزار يقصدها الزائرين من كل بقاع العالم ليتبركوا بها ويطلبون الشفاعة منها ويتوسلون الى الله ببركتها وينالون حوائجهم ببركة مقامها عند الله.
اضافةتعليق
التعليقات