أ- البيئة والإبداع
تحتم دراسة الإبداع ضرورة إدخال السياق الاجتماعي فالمبدع لا ينفصل عن بيئته، وتظهر آثار بيئته ومجتمعه في أعماله الإبداعية، فلا تخلو قصيدة الشاعر جاهلي أو إسلامي أو معاصر من إشارات تبين بيئته وعصره، وتعكس ثقافة عصره وما يميز شعره. لذا "تقضي دراسة الإبداع النظر إليه في ضوء السياقات التي يحدث فيها، وقد يقضي فهم الإبداع سعي المرء سعيا حثيثا وراء السياق (الاجتماعي، والذهني، والثقافي) للإلمام بتاريخ العمل الإبداعي الشامل.
في الواقع، تبدو الاسهامات الإبداعية غير قابلة للتنبؤ نظرًا لانتهاكها المعايير الراسخة التي وضعها الرواد الأوائل والمعاصرين للمبدع. وتعد قدرة المبدعين على التوصل للاكتشافات بالمصادفة وتحقيقها بفاعلية خاصة من بين كثير من الخصائص المميزة لهم" فيجب إدخال تأثير البيئة والمجتمع في تحليلنا للصور الإبداعية للشاعر.
ب - أثر مكونات البيئة في صنع الإبداع
حدد العلماء عناصر تساعد المبدع وتمكنه من صنع إبداعه، منها البيئة والمناخ الذي يعيش فيه، فيجب أن يعيش المبدع في بيئة ومناخ جيدين ليكون قادرًا على الإبداع، فهي عوامل تتجاوز البناء الذاتي لشخصية المبدع، إنها أمور تتصل ببيئته وتعليمه وثقافته وما اكتسبه منهم؛ كذا قدرته على القفز فوق النمط القديم، فلها دور كبير في صنع عقل المبدع، يتلخص في الآتي:
۱ - النوم: هو أحد أفضل الأدوات للحصول على أفكار إبداعية. لقد تم الاعتراف جيدًا بأهمية النوم كأداة مساعدة على الإبداع. فلا بد أن نمنح المبدع بيئة تحقق لــه الراحة الجسدية (النوم)، إن النوم بمثابة عملية شحن لخلاياه العصبية نتيجة شحنها بالطاقة الكهربية أثناء النوم.
٢ . رواية القصص: إن رواية القصص أمر مهم ... والمحادثة مع الآخرين قد تعطي زخما لرواية القصص فتفتح آفاقاً جديدة في مخه يلج فيها فيبدع أفكارًا جديدة من خبرات سابقة فيه.
٣ - تعلم الآخرين: إن التعليم ليس فقط مهمة روتينية؛ إذ يمكن أن يقدم مساعدة عظيمة على الإبداع ... إن تعليم الآخرين سبيل رائع لتحرير عقلك.
٤ - التفكير الجانبي: يتضمن التفكير الجانبي والقفز عبر الأنماط تطبيقا مباشرًا لمفاهيم مستمدة من التقدم الذي قطعه حقل ما على مسألة غير ذات صلة في حقل آخر. فقد تقوم في إطار التفكير الجانبي - بتطبيق الطبيعة الخاصة بنموذج مـا للمساعدة على إلقاء الضوء على مشكلة مختلفة. أو تقوم بتطبيق التقدم الذي تحقق في تبیان نموذج ما على نموذج آخر مختلف تمام الاختلاف التفكير الجانبي قدرة خاصة للمبدع تجعله يقفز فوق النمط القديم من التفكير الذي تعلمه سلفا. لكنه في ذات الوقت مرتبط ببيئته، فهي من أعطاه النمط القديم والأساسي الذي سيقفز فوقه، وما فعله هو أنه خرج على هذا النمط الخروج على الصندوق، بتطويره والإبداع فيه
(التفكير خارج الصندوق).
ج ـ المعرفة أساس التفكير الإبداعي الخلّاق.
المعرفة من عناصر صنع الإبداع في الدماغ، يعتقد بعض الناس أن الإبداع والتفكير الخلاق يتطلب أفكارًا جذرية، راديكالية، وهذه الأفكار تأتي من اللامكان. وهذا الاعتقاد بعيد تماما عن الحقيقة؛ فالمعرفة مهمة جدًا في هذا التفكير الإبداعي (الخلاق) ... فعادة ما تتأسس الأفكار الجديدة على ترابط أفكار موجودة في الأصل، أو استعارة فكرة من موقف مشكل مشابه.
هذا يعني أن الأفكار الإبداعية لا تأتي من فراغ، بل لا بد أن تُبنى على أفكار سابقة طورها المبدع وغير وبدل فيها، فجاءته أفكاره السابقة وما اكتسبه بالتعلم، فالإبداع ينمو بهذه الأشياء، إنها عملية عقلية يقوم فيها المخ بالربط بين الأفكار وما خزنه منها في وصلات خلاياه.
لهذا ارتبط الإبداع بالمعرفة من وجوه، تجعل المبدع يتمكن من إبداعه من هذه الوجوه
١ - تأثير قيود المعرفة على الإبداع (التفكير داخل الصندوق): تفيد المعرفة السابقة في عملية الإبداع؛ ولكن قد تؤدي هذه المعرفة إلى تقييد انطلاقة المبدع، لأنها تصنع شبه شلل في تفكيره، فلا يرى إلا ما اكتسبه سلفًا من معرفة، مما يجعله يفكر في إطار أفكاره السابقة أي التفكير داخل صندوق أفكاره التي تعلمها سابقا.
إذن المبدع يحتاج إلى الخروج على إطار المعرفة السابقة، ليبدع أفكارًا جديدة دون التقيد بالأفكار السابقة. فقد تصيب من يحاول حل المشكلة بعمى ذهني على نحو جزئي وتبعده عن سبيل الولوج إلى عالم العقل؛ وتفرض عليه التفكير (داخل الصندوق) أعني أنه لا يستطيع التفكير خارج القيود والقواعد والمحددات السائدة والمستقرة.
ولا شك أنه سيكون من الأفضل الانطلاق بسجل نظيف أعني أن نبدأ وكأن الذهن صفحة بيضاء ... ولكن وعلى نحو عام، نقول إن حل معظم المشكلات دون دراسة مــا قـام بـه الآخرون من قبل هو في الغالب، أمر شبه مستحيل. هذا الأمر يجمع بين جانبين متناقضين يجعلان المبدع يقع في صراع بينهما وهما:
الأول: ما لديه من أفكار سابقة هي أساس يبنى عليه أفكاره الجديدة، ومشكلة القديم أنه يشل تفكيره الإبداعي ويصيبه بالعمى الفكري، فيظل مقيدا به، فلا يخرج بإبداع أي جديد.
الثاني: محاولة التحرر والخروج على الفكر القديم الذي يقيده، فلا يبدع الجديد. لكننا نتراجع عن وصف المعرفة السابقة بالقيود التي تكبل المبدع، لأنها تمثل خزانته التي يرجع إليها المبدع، فحفظ الشاعر لشعر سابقيه يمكنه من إبداع شعره الجديد، مما لم يسمع قبله؛ فينسج مما حفظ كل جديد.
-الحدس: ما علاقة الحدس (التخمين) بالإبداع؟ يعتقد بعض علماء النفس، أن مفهوم الحدس، يلعب دورًا معينا في عملية التفكير الإبداعي والخلاق، وأن هذه العملية الحدسية تختلف تمامًا عن التفكير التحليلي، فهم يعتقدون أن الحدس يعد نتيجة لإعادة بناء المشكلة، بعد فترة من عدم التقدم والسكون، حيث يعتقد المرء أنه عالق في خبرات الماضي؛ وعندما يحدث فجأة اكتشاف أسلوب جديد لإعادة عرض المشكلة والتعامل معها، ومن ثم يؤدي هذا الأسلوب الجديد إلى طريق مختلف للحل لم يكن ممكنا، قبل الآن، التنبؤ به..
يأتي الحدس نتيجة تفكير داخلي صامت تقوم به الخلايا العصبية لتقدم حلا للمشكلة الآنية. إنها من يفكر لنا في الحل عند انشغالنا بأمر آخر ثم تلقي الحل علينا فجأة. إذن هناك تفكير وبحث يحدث بدماغنا لا نشعر به فنعده حدسًا، إنه إبداع يعمل في صمت داخل الدماغ. هذا الأمر جعلنا نغير قولنا: إن داخل الشاعر شيطان شعر، يلهمه القصائد التي يبدعها، لقد تبين الرشد من الغي؛ فعرفنا حقيقة الأمر بالدليل، إنه عمل الدماغ وخلاياه، وإن صمت الشاعر وسكونه لحظة الإبداع كان يـسبب سماعه لخلاياه أثناء إبداعها، فكأنه وحي يهبط عليه من السماء؛ نحسبه وحيًا يهبط على الشاعر أو شيطانا يلهمه شعره.
اضافةتعليق
التعليقات