كانت جالسة أمام خيمتها تنظر كالذاهلة إلى الرمال المنبسطة، إلى ما وراء الأفق، وقد راحت صور الماضي والحاضر والمستقبل أيضا تتبدى لخيالها على تلك الحبات الذهبية اللامعة، وراحت في دهشة من أنكرت هذا الخيال تنظر برغمها في حبات الرمل وكأنها تستطلعها على أسرار الغيب المجهول، الذي بدأت تبان دجنته ويبين مستوره المظلم.
وعلى ضوء الحاضر راحت السيدة زينب عليها السلام تستعرض الماضي وترى صوره، ومن بين هذه الصور لمعت صورة فريدة، إنها طلعة جدها العظيم رسول الله (ص) ووجه امها الزهراء البتول فاطمة (عليها السلام).
وأحزنها أن تطوى هاتان الصفحتان الزاهرتان وان تبدأ عتمة القدر تحتاط بالبيت الهاشمي، ولمحت طيف أبيها وسال هدير دمعها، ثم عادت بخيالها إلى صورة أخيها الحسن (عليه السلام) سبط محمد صلى الله عليه وسلم وريحانته كيف انتحب مسموما.
تذكرت كل هذا ثم ما لبث الفكر ان عاد بها في سرعة إلى الحاضر الأليم لترى سبط الرسول وعترته وأحب الناس إليها، أخاها الحسين عليه السلام، في نفس موقف أبيها علي عليه السلام، وأخيها الحسن عليه السلام، ممن استغاثوا بأبيها وأخيها ليدفعوا عنهم الظلم فتخاذلوا عنهما.
فترى الزمان يعود أدراجه لترى مناصريهم يتخاذلون للمرة الثالثة، ولم يكن استدعاؤهم إياه، وإلحاحهم عليه ليلحق بهم كي يستخلصوا له الخلافة من البيت الأموي غير خدعة للإيقاع به، والقضاء عليه حتى لا يكون هناك معارض او مطالب بحق في خلافة المسلمين، كل هذه الأفكار تضج بصخب في رؤوسهم العفنة، فقد لبى الحسين عليه السلام دعوتهم لأمر سماوي، لم يخرج الحسين عليه السلام طالبا لملك ولا لثأر إنما خرج لإصلاح امة جده محمد (ص).
وقد أتى اليوم المشهود انتصار الدم على السيف، واحتمدت ساحة المعركة كانت الدممة تدوي، والصيحات ترتفع والبنود المتعالية في زهو تتقدم سائرة نحو النصر، والحسين عليه السلام عند باب فسطاسه واجم مطرق الرأس يفكر، وهيهات وان ينقذه او يخرج به من مأزقه ذلك التفكير.
ونظرت السيدة زينب من مكانها فرأت ما رأت وراعها ان تتقدم جيوش عبيد بن زياد نحو أخيها، وأسرعت إليه هلعة مبهورة الأنفاس لا لترد عنه القضاء، ولا لتثير حميته إلى قتال كان راغبا عنه حقنا للدم الإسلامي، ولكن لتقول له في همس حنون:
-يا أخي.. أما تسمع .. ان الأصوات تقترب فأنصت.
وفي هدوء رفع الحسين إلى أخته رأسه الشريف، وفي نبرة جليلة أجابها قائلا:
-إني رأيت جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤيا وهو يدعوني إليه.
وصرخت زينب عليها السلام في جزع وأسى ولطمت وجهها بيدها:
-يا ويلتاه..
ربت على كتفها وقال لها:
-ليس لك الويل يا اخيّة.. رحمك الرحمن.. ارحم الراحمين، ليس عليك ويل يا زينب، اجمعي النساء والأطفال في خيمة ولا تفارقيهم ثم ودعها وارتجل الى قدره.
لم يكن من السهل الهين على الحوراء ذلك الوداع فقد زاد فزعها ومخاوفها، فعادت وهي تتخيل نهايته، بل قتله في ارض غريبة بين قوم باعوه.
والتفت حول أخيها الحسين (عليه السلام) فرسانهم كان العدد يزداد حتى سقط في ساحة الجهاد شهيدا.
وتفرقت الجموع من حوله وان لزينب لتمر بعد هذا النقع الثائر وتتفحص جثث القتلى فتجد محبوب قلبها وقرت عين امها، الحسين عليه السلام جثة دون رأس، لم تستطع كبت تلك الآه التي أطلقت لها العنان وصاحت:
-يا محمداه... صلت عليك ملائكة السماء يا محمداه هذا الحسين بالعراء مرمل بالدماء مقطع الاعضاء..
وظلت تندب وصوتها المتهدج الجريح يصل إلى قرارات القلوب، فيعتصر حباتها ويثير الدمع فتذرفه العيون دون تفرقة بين عدو، وصديق، او محب للبيت الهاشمي، او مظاهر للسلطان الأموي الباطش الشديد.
ورفعت عقيلة الطالبيين في النهاية عينها لترى الناس، وتتفحص وجوههم وقد أحاطوا بجثة سيد شباب أهل الجنة واقترب منه الملعون شمر بن ذي الجوشن وراح ينحر رأسه الشريف لينال جائزة نصره المؤزر، ثم حملوا الرؤوس على أسنة الرماح وساروا بضعن النساء والأطفال سبايا مكبلين بالقيود إلى قائدهم عبيد الله بن زياد ليرى فيهم رأيه بعد النصر الدنيوي الذي ناله.
دلفت السيدة زينب إلى مجلسه ثم جلست وتبعها من كان معها من أهل البيت.
ونظر عبيد الله إلى الحوارء زينب ثم قال متسائلا:
-من هذه الجالسة؟
وكررها ثلاث مرات فلم تجبه في واحدة منها، فصاح مزمجرا طالبا جواب سؤاله وإذا بإحدى إمائها تجيبه:
-هذه زينب بنت فاطمة.
واعتدل ابن زياد في جلسته وشاع السرور على وجهه وقال متشفيا:
-الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم واكذب أحدوثتك.
وفي نبرة هادئة وحزينة أسرعت زينب عليها السلام ترد عليه قائلة:
-الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وطهرنا تطهيرا، لا كما تقول أنت، لأنه إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر.
وعاد ابن زياد يقول وكأنه لم يرد أن تنتصر عليه الهاشمية الفصيحة في ميدان القول:
-فكيف رأيت صنع الله بك؟
فأجابته في ثبات وحزم:
-كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون إليه وتتخاصمون عنده.
فقال لها ابن زياد متشفيا:
-لقد شفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك.
فبكت زينب عليها السلام وقالت:
-لعمري قتلت كهلي، وابريت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فأن يشفيك هذا فقد اشتفيت.
فقال لها عبيد بن زياد:
-هذه لعمري شجاعة، ولقد كان أبوك شاعرا شجاعا.
قالت في حسرة:
-ما للمرأة والشجاعة، إن لي عن الشجاعة لشغلا، ولكني اعني ما أقول.
وعادت تطوي أحزانها وتسير قافلتها خالية من رجالها لتدخل إلى الشام، ووقف أهل البيت طويلا أمام الخليفة المنتصر المزهو، وتطلع رجل ممن معه وأحب أن تكون له احدى السبايا وأسرع يصارح يزيد عليه اللعنة برغبته تلك قائلا:
-يا أمير المؤمنين.. هب لي هذه...
وخافت الطفلة أن ينتزعها ويهبها للرجل فأسرعت إلى عمتها العقيلة زينب عليها السلام وتعلقت بثيابها متوسلة مستنجدة فهدأت ثائرتها والتفتت إلى الرجل وقالت:
-كذبت والله ولؤمت ما ذلك لك ولا له.
وغضب يزيد لتحديها إياه علانية فقال:
-بل كذبت والله أنت، إن ذلك لي ولو شئت ان افعله لفعلت.
أجابته الحوراء غاضبة غير عابئة بجلال مكانته وعلو سلطانه:
-كلا والله ما جل الله لك ذلك إلا إن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا.
وثارت ثائرة يزيد لعنه الله وصاح فيها:
-إلي تقولين هذا القول؟! إنما خرج من الدين أبوك وأخوك!.
وأجابته السيدة زينب عليها السلام:
-بدين الله، ودين أبي، ودين أخي، اهتديت أنت وأبوك وجدك.
فقال: كذبت ياعدوة الله.
فقالت عليها السلام في حزن المقهورة: انك لأمير، وصاحب سلطان تستطيع بسلطانك أن تقهر وتشتم.
فنكس رأسه وسكت، ثم وضعوا بين يديه الرأس الطاهر انه رأس الحسين عليه السلام فراح ينكث ثناياه بقضيب كان في يده وهو يرتجز الشعر فأثار العقيلة زينب عليها السلام فقالت له:
-يا يزيد (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون).
أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسرى ان بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة، وان ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، تضرب أصدريك فرحاً، وتنفض مذوريك مرحاً، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: (ولا تسحبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لأنفسهم، انما نملي لهم ليزدادوا اثماً ولهم عذاب مهين).
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن، والاحن والأضغان، منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك وكيف لا تقول ذلك، وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأقة، بإراقتك دماء ذرية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب وتهتف بأشياخك زعمت انك تناديهم فلتردن وشيكاً موردهم ولتودن انك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت، اللهم خذ لنا بحقنا، وانتقم ممن ظلمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا.
فو الله ما فريت إلا جلدك، ولا حززت الا لحمك، ولتردن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما تحملت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلم شعثهم، يأخذ بحقهم (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون).
وحسبك بالله حاكماً، وبمحمد صلى الله عليه وآله خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم من سول لك ومكنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلاً وأيكم شر مكاناً، واضعف جنداً.
ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك، اني لاستصغر قدرك واستعظم تقريعك، واستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرى.
الا فالعجب كل العجب، لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفرها أمهات الفراعل ولئن اتخذتنا مغنما، لنجدنا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد الا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد، والى الله المشتكى وعليه المعول.
فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فو الله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرخص عنك عارها، وهل رأيك الا فند وايامك الا عدد، وجمعك الا بدد، يوم ينادي المنادي الا لعنة الله على الظالمين.
والحمد لله رب العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله ان يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة، انه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وانتهت فاجعة الطف، ومضت اميرة الشام الى المدينة تجر خلفها ذكرياتها بعزيز قلبها، وراح طنين الماضي يحمل الى اذنيها اصداء صوت احبائها .
ومن كلام السيدة زينب عليها السلام: من اراد ان يكون الخلق شفعائه الى الله فليحمده. ألم تسمع قولهم (سمع الله لمن حمده). فخف الله لقدرته عليه واستح منه لقربه منك.
ولدت الحوراء زينب عليها السلام قبل استشهاد جدها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، تزوجت ابن عمها (عبد الله بن جعفر) واثمر الزواج محمدا، وعليا، وعباسا، وام كلثوم، وعونا الاكبر. وينسب إليها في مصر مسجدها، وفي الشام قبرها.
توفيت سنة 65 هجرية، لقد عاشت جليلة وماتت عظيمة ذات عقل راجح وصاحبة رأي سديد وفصاحة وبلاغة جعلتها جديرة بأن تكون من بعد امها فاطمة عليها السلام ثاني سيدة نساء العالمين، انها السيدة زينب اميرة الشام.
اضافةتعليق
التعليقات