يا علي، أنت العليّ الذي لا نظير له، وقد أودع الله في صلبك أنوارًا قدسية، تسري حيث مكانها ومستقرّها، لتلد لنا ذرية، أشبهتك في قوّتك، وغزارة علمك، وهمّتك التي قلَبت العالم: المعلّم، والدارس، والمدرّس، والكاتب، والمكتب...
وأيقظتَ بنهجك الرجلَ والمرأة، فكان صبيّكم حكيمًا عليمًا، وكريمتكم صدوقة طاهرة. وقد أنبتوا نباتًا حسنًا، من آباء أطهار، وأمهات مطهّرات من الدنس...
ليُولد للمِحنة قدرةٌ عصماء، لا تغيب عنها شمس المعارف، فكان فرجك، يا علي، أن أورثتَ لكل إمامٍ جبهةً تختلف أسلوبًا وديناميكية عن غيره من الأئمة (عليهم السلام)، ليصلوا الحاضر بكل ما يناسب من تغيير، وتذكير، وبناء، وتحرير.
وكما أشرقت البدايات برجالها، تكون النهايات ضامنةً للمحتوى، كابحةً للشكوى.
وكما تحمّل صدرك الشريف، يا مولاي، ضيمَ الدنيا ومفارقاتها، أكملتها بعدك النخبة المنتَجبة من ذريتك الطيّبة، مسيرةً لا يختلف عطاؤها، وقد تكفّلت بكل ما تملك في سبيل رسالة جدّهم محمد (صلى الله عليه وآله).
المعصومة ومسير الولاية
السيدة المعصومة (سلام الله عليها) تكفّلت بهذا المسير بعد عهد أبيها الإمام الكاظم (عليه السلام)، وبدأ العهد الرضوي، لتُترجم للعالم معنى التحدّي، وضرورة السير بقوة، والأخذ بيد الطموح إلى حيث وطن العلم والمعرفة.
وكما أن الدين والوطن يحتاجان إلى رجالٍ أقوياء في المبدأ، فهما يحتاجان كذلك إلى صوت المرأة؛ ربما بكاء، أو كلمة، أو قلم...
فبعض النوائح تُدركها نصائح، من أفواهٍ تعلّمت من وحي الرسالة، ونهلت معارف كثيرة، وحلولًا متكاملة صدّقها الوحي وأهله، فكان ملازمة المعصومة لهذا النهج مفروضةً منها لتصل إلى معدن التعريف، وموقف الصدق.
المعصومة، الحرم الآمن
العلم يحتاج إلى حياء، فلا بد أن تغلّفه المرأة بالعفاف. وهو يدعو إلى المثابرة، وفهم المقدّرات والنازلات، فلا بد أن تتخطّاه المرأة بالصبر.
ويكتب التاريخ خطوات الخالدين، فلابد أن تشاركه المرأة بإدراكها، وبصيرتها، وإلزام فطرتها.
لأن المرأة مفردة من مفردات النهضة في كل وقتٍ وضرورة، لتصل إلى الغاية الكبرى من الوجود، فتعْلو وترتقي الصفات حتى تكون المعجزة والشفّاعة.
لأن الوعي مطيّة العقلاء، وزهو الأتقياء، فلا منارة تثبت على وجه الأرض إلا بغرس الخير. ودعاؤها هو المجاب، من يدٍ استحقّت أن تكون هي المنار، لذا يختار الله لوحيه ونوره من هم أهلٌ لذلك، فاختار السيدة الصديقة فاطمة المعصومة (سلام الله عليها).
لأنها جمعت صفات القيادة، وعاطفة الطريق، وأجادت بطموحها سرابيل متعددة، وتحملت عناء الرسالة، وحبّ الولاية، وعرّفت الأجيال على قنوات تتفرع منها منابع العلوم والمعارف، فكان لها الأثر الجليّ في عالم التوطين.
وخلّد اسمها في حضارة الأئمة (عليهم السلام) وأقوالهم الشريفة، وحازت على أفضل الألقاب والمنَح الربانية، فكانت أمةً في حضارة، وبات اسمها في علم الغيب يُشابه أمّها الزهراء (سلام الله عليها) في كثير من السجايا.
فلكل فعلٍ ردّ فعل، فهي الفعل المانع الجامع لجيل الثقافة، والدور الخفي في مسير أخيها الإمام الرضا. وكفى بها أنها البديل بعد أبيها لحفظ ودائع الرسالة، وقد فعلت.
لقب المعصومة:
أُطلق عليها هذا اللقب لطهارتها وصفاء روحها، ولأنها نشأت في بيت الإمام الكاظم تحت رعاية الإمام الرضا.
من فضائلها:
تُعرف بالسيدة العابدة، والعالمة، والمحدّثة، وكريمة أهل البيت. وهي راوية للأحاديث، وروي عنها عدد من الروايات في فضل أهل البيت (عليهم السلام).
وفي رواية قال الإمام الصادق (عليه السلام):
"مرحبًا بإخواننا من أهل قم... إن لنا حرمًا، وهو بلدة قم، وستُدفن فيها امرأة من أولادي تُسمّى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنة."
وروي عن الصادق (عليه السلام) أيضًا:
"إنّ لله حرماً، وهو مكة. ألا إنّ لرسول الله حرماً، وهو المدينة. ألا وإنّ لأمير المؤمنين (عليه السلام) حرماً، وهو الكوفة. ألا وإنّ قم الكوفة الصغيرة. ألا إنّ للجنة ثمانية أبواب، ثلاثة منها إلى قم، تُقبض فيها امرأة من ولدي اسمها فاطمة بنت موسى (عليها السلام)، وتدخل بشفاعتها شيعتي الجنة بأجمعهم."
المعصومة ومبدأ الشفاعة
في زمنٍ اعتاد فيه المنهزمون على ادّعاء الكذب، واحتواء الصوت، وكبت الحناجر، وحذف البصائر، وبكل وسيلة كانت أو تكون للاستحواذ على "بساط سليمان"، فعلوا ذلك مع أولاد أئمة الهدى (عليهم السلام)، فلم تكتفِ سيوفهم السامة بقتل الإمام، بل لحقوا ذريّته في كل الفيافي والصحارى، لخنق صوت الحق، وأكل لقمة التدبير، وإقصاء "كتاب التذكرة" بعيدًا، ومحو أثره الروحي...
كما حدث مع أخت الرضا (عليه السلام)، السيدة التقيّة النقيّة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، المعجزة، والشافعة لشيعتها، وبقولها: "أما أنا فأشفع لأهل العالم"، وبشهادة الأئمة، وكل العلماء، والإعلام الناطقة بعد أبيها الكاظم، وما يلزم أداؤه في غيابه، والملازمة لرحلة أخيها الرضا (عليه السلام)، ومتابعته في غيابه.
هنا أدرك الظالم أنها "زينب أخيها"، وأن وجودها يعود عليهم بالضرر الجسيم، لما عرفوا من شخصيتها، ومنزلتها القيادية الرشيدة بين إخوتها. ولأنها المبلّغة لرسالة الإمامة، وبدعوة من أخيها الرضا (عليه السلام) بأن تتوجّه إلى قم.
فلم تنم عين حراستها لهذا المسار، استجابةً وطاعةً لأمر مولاها الإمام الرضا، فكانت المقتدرة الذائبة في دين الله، المُعطاءة السخيّة لدرب الإمامة، بنفسها وراحتها.
فبذلت علمًا، وقدّمت صرحًا، وخلّفت تراثًا، وحفظت سرًّا، وكفلت كتابًا، وكانت القائمة بأعمال أخيها الرضا (عليه السلام) في دار غربته. وقد سمّاها الإمام الرضا بـ المعصومة، ونزّهها من كل خطأ، وبلغت ذروة الحديث والدراية، وحفظت أبواب الشريعة، وتكاملت، وتعاملت بعذوبة المنطق، وسهولة النص، وجمال الأدب، وكمال الأخلاق..
حتى كانت جائزة لمن عرف حقها وزارها، بتصريح الإمام الصادق والإمام الجواد (عليهما السلام) بقولهم:
"من زارها عارفًا بحقها فله الجنة"
"من زار عمّتي في قم فله الجنة"
فلابد أن تمشي الأقدام، حافية القدم، متقدة الهمم، متسرّبلة بالوقار، لتحظى برضاها وشفاعتها.
المعصومة ومنزلة الخُلد
إنّ الله سبحانه وهب البشرية فرجًا مُلهمًا على يد أوليائه، لا تخفى عليهم خافية، وفي نفوسهم وعلياء تطلّعهم، أفكارٌ قيدتها سلاسل الظالمين، وفي غمد صدورهم غدرٌ لقتل ذريته الأطهار...
ولكنهم خائبون، لا يُدركون أن نور الله لا يخبو، وأنّ أهل الذكر كُتب عليهم الخلود، وأنّ الظالمين كأعجاز نخلٍ خاوية، تُقلّبهم أيدي القدرة استدراجًا إلى حتفهم المشؤوم.
فجعل الله من كلمة أوليائه أعلامًا ثابتة، ومنارات تُلهم الخير، وكوثرًا يشفي هذيان النفس وتخبّطها، في وقت هرج العقول، ومرج الظنون. فلم يكن الموت آخذًا سلطتهم، ولا تاركًا لذِكرهم.
ومن هنا نفهم الغائية من غربتهم، فقد جعل الله لهم مقرًّا في الفيافي والرمال الدوافي، وأحكمت آياته أن يجعل من أبدانهم الطاهرة قببًا معمّرةً بالأزل، فيتّسع الإسلام، وتزدهر الأنام بفضلهم.
فكانت قبورهم تزورها السهول، لتُبارك في طبيعتها الغرّاء، وقد سكنتها عموم الشيعة، تحوم أفئدتهم حولهم ليلًا ونهارًا، تستلهم منهم القوة، والصبر، وكل المعارف.
فبثقلهم يثقل ميزان الحبّ والمودّة، لأنهم قادة المودّة، والألفة، والسلام.
اضافةتعليق
التعليقات