كلماتٌ ارتمت في أحضانِ مسامعي، وهي تهدم شخصًا يعزُّ عليّ، فما كانت ردّةُ فعله إلا أن أنزل رأسه خجلًا، وامتلأت عيناه بالدموع.
حينها تساءلت: كيف لكلمةٍ بسيطةٍ أن تخلق جرحًا غائرًا في أعماقِ الإنسان؟ ثم تأتي الذاكرة بصوتٍ هادئ يذكّرني: وماذا عن جُرحك أنت، حين حبستَ الألم حتى تورّمت حنجرتك، سجنًا لصرخةٍ لم تخرج؟
أهو الألم الذي تجمّد في الداخل، أم الكلمات التي ارتدّت كطلقاتٍ صامتةٍ تمزّق الروح من داخلها؟
شيءٌ ما حينها قتلني في ذلك اليوم؛ لم يكن سُوء الجرح هو الأسوأ، بل ذلك التناقض القاسي بين عُمق الجرح وسخافة الاعتذار: "آسف، إن ما في قلبي على لساني"، ممزوجةٍ بضحكةٍ باهتة.
فيا لها من كلمة! أرذل من أن تُوصَف بأنها اعتذار، بل هي هروبٌ واضح، واتهامٌ صارخ للسانٍ يُزعَم أنه خرج عن السيطرة.
وهذا المشهد الشخصي ليس بمعزلٍ عن عالمنا، بل هو جزءٌ من سماءِ خطابِنا العامِّ المتبلّد، منطلقًا من بيوتنا، وعدم الانتباه للكلام حتى يصل إلى المجتمع الخارجي، سواءً واقعيًا أو في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تتحول الكلمات إلى قنابلَ موقوتةٍ يرميها القاذفون من خلفِ شاشاتهم، ليأتوك بعدها بحُججٍ هشّة: "لم أقصد"، أو "السياق خانني"، متناسين أن للكلمة مسؤوليةً قبل أن تكون تعبيرًا، وأمانةً قبل أن تكون رأيًا.
للكلام صوارمُ تقطع، وأزهارٌ تشفي
تقف كلماتُ الإمام عليٍّ (عليه السلام) وقفةَ حزمٍ أمام مثل هذه الأفعال، فيقول:
"لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ، وَقَلْبُ الْأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ".
وهنا يكشف عليه السلام الحقيقة التي يحاول الجارح إخفاءها: فلا تكن مخدوعًا، فما قذفه لسانُه لم يخرج من فراغ، بل من قلبه.
ومن خلال كلماتِ سيدِ البلغاء ندرك أن "لسان العاقل خلف قلبه" تعني أنه يُروِّضه ويُصفِّيه، ويتأكد من طهارة ما يخرج منه، فلا ينطق إلا بما يصلح، ولا يقذف إلا بما يُنمِّي.
أمّا الأحمق، فقلبه تابعٌ للسانه العابث، يُلقي بالكلمات كالحصى، لا يُبالي بما تُحدِثه من دمٍ أو ألم، غير مُدركٍ أن لسانه ليس حيوانًا طليقًا بلا صاحب كما يزعم، بل هو الترجمان الأمين لما يخطر في قلبه.
فالكلمات التي تُقال في لحظة غضبٍ أو استهتار، ليست سوى حجارةٍ كانت ملقاة في قاع القلب، فجاءت اللحظة المناسبة ليقذف بها لسانه نحوك.
والاعتذار بهذه الصورة العقيمة هو إقرارٌ صامت بأن هذه الحجارة جزءٌ من بناء نفسه، وأن قلبه وعاءٌ لكل ما هو ثقيلٌ وخطير، لذلك لا يغرنّك اعتذارٌ يجعل من لسانِ المقابل شيطانًا مستقلًّا عن إرادته.
فالعاقل مالكٌ لزمام قلبه ولسانه، والجارح الجاهل لسانُه هو الحاكمُ المطلق لقلبه الفارغ.
وكما أن للقولِ فلسفةً، فإن للاستماع آدابًا وحكمة، فحين يتوجّه إليك أحدُهم باعتذارٍ صادق، كُن متسامحًا لتقبّله، وحكيمًا لتميّز الصادق من غيره.
ولكن لا تسمح لأحد أن يجعل من لسانه سيفًا يصول ويجول، ثم يطلب منك أن تمسح الدماءَ بكلمة "آسف" عابرة.
فالصمت عن الجاهل أحيانًا حكمة، ولكن وضع حدودٍ واضحةٍ للكلام المسيء هو الحكمةُ كلها.
ومن هنا تأتي الترجمة العملية لحكمة الإمام عليٍّ عليه السلام، فهي ليست مجرد كلماتٍ نرددها، بل خارطةُ طريقٍ لترويض النفس.
لذلك عزيزي:
توقف لحظة، وامسك بزمام ذلك اللسان "الشقي" قبل أن يسبقك إلى الهاوية؛ فليست القوة أن تتكلم، بل القوة أن تملك نفسك عند الغضب.
اسأل نفسك: لماذا أريد قول هذا؟
وفي هذه اللحظة من التأمل تكمن لحظة اكتشاف الذات؛ فيها تكتشف تلك "الحجارة" في قاع القلب قبل أن تقذفها وتجرح بها من حولك.
تأكد من ضرورة الكلمة وصحتها ولطفها، فليس كل ما يُعرَف يُقال، وليس كل ما يُقال يُحسَن قوله.
فقم بتصفية ما في قلبك قبل أن يصل إلى لسانك، لأن الكلمة الطيبة صدقة، والكلمة الخبيثة جريمة.
ومن خلال هذا الحديث البليغ، علينا إدراك معنى الكلمة، والسعي لأن نكون أوفياء لأمانتها، ونعيد هندسة علاقتنا مع أقوى أسلحتنا وأخطرها، ألا وهي ألسنتُنا.
فكما أن الكلمة يمكن أن تكون قبرًا، يمكنها أن تكون حديقةً غنّاء. فلنقتدِ بسيد البلغاء (عليه السلام)، فلا نضع قلوبنا في أيدي ألسنتنا العابثة، بل نروّض ألسنتنا لتُترجم فقط عن طهارة قلوبنا وصفاء نفوسنا.
ولْيكن لساننا دائمًا وراء قلوبنا، ننطق بما يريده القلبُ الطيب، لا بما تهواه الأنانية وتدفع إليه الغفلة. ففي النهاية، ليست كلماتُنا سوى مرآةٍ لأرواحنا، فاجعل مرآتك نقيّة، تنعكس عليها أزهارٌ تشفي، لا صوارمُ تقطع.
اضافةتعليق
التعليقات