لم يكن الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام) مجرد طفلٍ في أعين المؤمنين، بل كان وعداً من السماء يمشي على الأرض، يحمل في ملامحه البريئة نور الإمامة، وفي سكونه الطفوليّ هدوء العاصفة التي كانت تلوح في أفق الطغاة.
جاء إلى الدنيا بعد أن اشتدت قبضة العباسيين على آل البيت (عليهم السلام)، وبعد أن رحل الإمام الرضا (عليه السلام) مسموماً تحت سمّ السياسة، ومكر السلطان، وخوف العروش من نبوءة لا تغيب عنهم: المهدي المنتظر، التاسع من نسل الحسين (عليه السلام) وكان الإمام الجواد (عليه السلام) هو التاسع في ترتيب الأئمة بعد أمير المؤمنين (عليه السلام)، أي أن ملامح المهدي بدأت تقترب في عيون الطغاة، وتُرعبهم مع كل نفس علويّ يولد في هذا الخط النبويّ الطاهر.
لم يكن المأمون يجهل المقام، ولا كان يستخفّ بالإمام، لكنه كان يظن أنه قادر على تطويقه بحيل السياسة ومكر البلاط، فزوّجه ابنته أم الفضل، لا حبّاً ولا صهراً، بل رقابةً مستترة وعيوناً مُجنّدة في غرفة الإمام، وعلى فراشه، وفي قلب بيته. وكان زواجاً سياسياً بامتياز، أراده العباسيون جسراً لاختراق القداسة، لا وصلاً للرحم.
ومع أن الإمام الجواد (عليه السلام) كان في مقتبل العمر، إلا أن حكمته سطعت كالشمس، وتفوّقه في مجلس المناظرة بين كبار الفقهاء أسقط الأقنعة عن وجوه المتربّصين، فأدرك المأمون أن العلم لا يُورث في المدارس، بل يفيض من معدن النبوة. وازداد الخوف... فكيف بطفلٍ يحمل من الحكمة ما يُسكت به شيوخ القصر؟!
لكن المأمون رحل، وجاء المعتصم من بعده، حاملاً نفس الرهبة، وأكثر عزماً على إنهاء هذا النور الهادئ. كانت عيون العباسيين شاخصة إلى المستقبل، يخشون من المهدي كما خشي فرعون من موسى، فحاولوا أن يطفئوا كل قنديل علوي قبل أن يشبّ نوره ويشتدّ لهبه. وشدّدوا الرقابة، ومنعوا الأئمة حتى من اختيار زوجاتهم، وحدّوا من إنجابهم، خشية أن يولد ذاك الذي إذا خرج، هدم صروح الظلم وقام بالحق.
وفي تلك الظروف القاسية، قُتل الإمام الجواد (عليه السلام) مسموماً، شهيداً في ريعان شبابه، غريباً كآبائه، محاطاً برقابة زوجته التي لم تكن زوجة، بل عيناً مفتوحة على كل حركةٍ ونبض. لكنهم لم يعلموا أن النور لا يُقتل، وإن قُطع جسده، وأن المهدي الموعود (عليه السلام) لا يُمنع بموت إمام، بل يولد حين يشاء الله، من حيث لا يعلمون.
رحل الإمام الجواد (عليه السلام)، لكنه ترك للأمة دروساً عظيمة: أن الإمامة لا تقف على عمر، وأن الطغيان لا ينتصر على الوعد الإلهي، وأن من يخشَ الحقّ يخشَ حتى الأطفال، إن كانوا من نسل الحسين (عليه السلام).
اضافةتعليق
التعليقات