جاء في وصف شهر رجب إنه الشهر الذي تصب فيه الرحمة الالهية على العباد كما قال النبي (صلى الله عليه وآله): "رجب شهر الله الأصم [الأصب] يصب الله فيه الرحمة على عباده"(١). وهذه من أعظم وأهم عطايا هذا الشهر، فمن منا لا يطمع في رحمته سبحانه، ويرجو ألا يصيبه شيء من غضبه أو سخطه، ولكن العبد الشاكر حقاً لا يكتفي بذلك فقط، لا يكتفي بالطلب أو الأخذ، بل يطمح أن يكون هو متخلق بذلك، فيصنع هذا القلب بمصنع رحمة الله المصبوبة عليه، فيكون رحيماً مع نفسه ومع غيره.
كيف نصل إلى العبد المصبوبة عليه الرحمة الالهية؟
إن التعامل بأدب مع رب هذا الشهر هو ما يجعلنا أقرب لنيل ما وعد به الحديث النبوي، فمن لا يولي بوجهه عنه، بل يقبل عليه بكله ويمد إليه يده باستكانة وافتقار، ستصب الرحمة في قلبه، أما كيف نعرف إننا منهم؟ فمن خلال رؤية هذه الرحمة في تفاصيل حياتنا أي أن تصبح نظرتنا نظرة الرضا والحمد والإمتنان، نرحم أنفسنا من كل ما يجعلها ساخطة على أقدار ربها وقضائه الجاري، فلا نراها إلا رحمة بنا مهما كان ظاهره يصور لنا على أنه عقاب أو غضب منه سبحانه.
فمتى ما نظرنا بعين الرحمة لن نعمى عن رؤية الحكمة مما جرى علينا به قضاءه، ولن يصعب علينا إدراك ما علينا تداركه أو تصحيحه كي ترفع عنا تلك البلاءات، بل حتى أقدار الخير نحتاج أيضاً لعين القلب هذه لنشكر كي لا تزول عنا، فهناك من ينظر بعين الاستحقاق، لا الفضل والرحمة الالهية فيخرج بذلك من عبوديته التي تستوجب عليه أن يكون مفتقراً لمعبوده دائماً.
كيف نصل إلى العبد ذي الرحمة المصبوبة على العباد؟
عن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) أنه قال: «فما ظنك بالرؤوف الرحيم الذي يَتَوَدَّد إلى مَن يُؤذيه بأوليائه، فكيف بِمَن يُؤذى فيه؟! وما ظنك بالتواب الرحيم الذي يتوب على من يُعاديه، فكيف بمن يترضاه ويختار عداوة الخلق فيه؟!» (٢).
هذه الرواية كفيلة بأن نعرف إن التخلق بأخلاق الله تعالى تحتاج إلى همة وتهذيب وسعي -وكلاً ينال بمقدار ذلك- فأن ترحم خصمك أو عدوك أو من آذاك صعب، خاصة إن كنت قادراً على أن تأخذ منه حقك، إذ إن الانتقال من العبد ذي الرحمة المصبوبة [عليه] إلى العبد ذي الرحمة المصبوبة [منه] على غيره تحتاج أولاً وقبل كل شيء إلى ما تقدم، اي أن ينال قلبه هذه الرحمة المصبوبة ويعيشها في حياته، ثم يتمكن من التعامل بها مع غيره.
مفتاح التعامل مع الآخر بالرحمة
عادة ما تقرن الرحمة بالعلم، فتعالى أرحم الراحمين، لعلمه المطلق بمخلوقاته، لذا وسع كل شيء رحمة، وهكذا أوليائه من الأنبياء والرسل والأوصياء والصالحين، فرحمة الله تعالى تجلت بهم لأنه سبحانه ولاهم على خلقه، وأعطاهم من علمه، حتى خص إرسال خاتم الأنبياء ومدينة علمه بالرحمة بقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، لأن الرحمة هي التي تبني المجتمع وتحافظ على سلامة ونقاء القلوب في العلاقات بين بني البشر، ولهذا سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) تتقدم فيها الرحمة على الشدة مع الجميع، فهو الحليم العليم، بالنتيجة كلما زاد الإنسان علماً بنفسه إنه هو محتاج لرحمة الله تعالى، ضعيف، لن يرى غيره إلا بعين الرحمة.
ومن أبرز مصاديق ذلك هي الرحمة بين الأزواج، في العلاقة الزوجية تعالى قدم المودة والرحمة على أي شيء آخر لبناء هذه العلاقة وضمان استمرارها ونجاحها، فالزوج لما يخطئ أو يسيء عندما يعلم شريكه بأنه ليس بمعصوم، وأنه فيه خصلة نفسية هو ضعيف في التعامل معها أو السيطرة عليها في هذا الموقف أو غيره لن يراه عدوه بل يراه بعين الرأفة، يكون رحيماً في ردة فعله ويتجاوز عنه، أو أنه يعلم إن ما خرج منه من كلام له أبواب أخرى يمكن أن تكون هي المرادة لا المراد الظاهر الآن، هنا لن تكون ردة فعله المثل أو القسوة بل سيكون رحيماً.
وهكذا في التعاملات الاجتماعية خاصة في النقد أو النصح، فالمعاملة برحمة يعني أن ننظر إلى حسنات الشخص لا إلى تلك السيئة التي صدرت منه الآن، إذ أن النظرة غير الرحيمة هي تلك النظرة الضيقة الأفق جداً بحيث تجعلنا نحصر وجود ذلك المخطئ كله بتلك السيئة التي صدرت منه فنراه سيئاً بكله فلا نرحمه، بينما النظرة الواقعية/ الرحيمة تسهل على الإنسان أن يتجاوز ويتعامل بلطف لا حدة في النصح أو النقد أو حتى التقبل لفكرة أن المقابل الذي لم نرَ منه إلا الحسنى إنه الآن هو وقع في الخطأ أو صدر منه ما هو ليس بحسن!.
خطورة غياب الرحمة في التعاملات الاجتماعية
إن غياب أسلوب الرحمة قد تجعل الإنسان لا شعورياً يصل إلى مرحلة الكره والبغض وهي حالة تطرف في المشاعر، فيمتلئ القلب في الظلمانية تجاه المقابل فلا يستطيع أن يتقبل أن فيه أي نور يُرى أو يُرتجى، فمن تراه بهذه الصورة قطعاً سيراك غير منصف له لأنك لا تُريه إلا زلته وكأن لا خير قد صدر منه يوماً ما، أو يمكن أن يصدر منه مستقبلاً، وهنا لن يحسن الظن بنصحك بل سيراك حقوداً حاسداً وقد تنقطع العلاقة بدل أن تتعمق، ولا يثمر ذلك النصح أو النقد الذي قد يكون صائباً، ولهذا الطرفين خاسرين!.
بالنتيجة يأتينا هذا الشهر ليصب هذه الرحمة فينا.. تلك التي ما نزلت بقلب إلا زينته بالخير والنور فشع منه ولغيره، وما رفعت من قلب إلا خرج معها كل خير ولطف ورأفة فيصبح صاحبه فظاً غليظ القلب، سريعاً ما ينفض الناس من حوله.
اضافةتعليق
التعليقات