بعد أن ذكرت السورة الصنف الأول -الكافرون- الذي يجب علينا اجتناب معتقداته وعمله، ذكرت مباشرة في هذه الآية، قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّـهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(٨)}، ما يجب على الصنف الثاني الاعتقاد به والعمل به.
بدءً إن الملفت * في الآية السابقة ذكر اسم البصير {وَاللَّـهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(٢)}، أما هنا فقد ذكرت إسم الخبير{وَاللَّـهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، إذ أن اسم البصير فيه إشارة إلى الإحاطة الالهية في رؤية ما يُظهر الإنسان وما يُخفي، فالمنافق مثلاً هو ممن يظهر خلاف ما يبطن، لذا لعل في ذلك تنزيه الله تعالى عن أن يخفى عنه من هو مؤمن حقاً أم كافر، وهذا ما يمكننا فهمه من قوله الذي أتى بعدها: {يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ(٤)}.
أما إسمه الخبير فقد خص به علم الله تعالى بعمل المؤمنين دون غيرهم، والخبير هنا يُشير للمداقة والتمييز لعمل العامل، فالإيمان درجات وعلى أثر ذلك تترتب درجة صلاح الأعمال.
أما كيف نكون من صنف الرابحين؟
فبما إننا عرفنا إن التغابن يعني الخسران، نجد في آية في سورة الصف تدل المؤمن كيف يكون من أهل الربح، وذلك بقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(١).
الملفت في هذه الآية أنها أشارت لنفس مضامين آيات هذه السورة، فالمُعتَقد المطلوب هو ذاته الإيمان بالله تعالى ورسوله ورسالته (الكتاب السماوي/الوحي)، أما العمل فهو الصالح أي ذو القصد الإلهي، فالكافر يعمل لكن عمله ليس بنية القرب وليس بقصد الامتثال والطاعة لله تعالى، لذا هو -كما تبين لنا أنه سيحبط ويكون هباءً منثوراً- فالمُعتَقَدُ الصالح يثمر عمل صالح، والقلب المؤمن يوجّه قالب صاحبه/جوارحه نحو كل عملٍ طيبٍ صالحٍ.
ولأن المقدمات ذاتها المطلوبة فإن الجزاء في آية سورة الصف كان أيضاً ذاته المذكور في هذه السورة وهو [الفوز العظيم] كما قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّـهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(٩)}.
كما أن في الآية التي تدلنا على التجارة المربحة اختصرت العمل الصالح بقوله تعالى: {وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}، أما في هذه السورة فقد اعطت مصاديق لهذا الجهاد وهذه المجاهدات، كما أنها أشارت أو خصت معتقدات معينة توصل الإنسان للنجاة من الغبن بل وبلوغ الفلاح كما في ختام السورة، وهي أربعة :
المصداق الأول في قوله تعالى: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّـهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّـهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(١١) وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(١٢)}.
المُعتَقد هنا أن يؤمن الإنسان بأن كل مصيبة يصاب بها لم تكن لتصيبه إلا بإذن الله تعالى، هذا الرب الذي لا يصدر عنه إلا كل خير، بالنتيجة طالما إنها بإذنه فهي لخير أريد به هذا المصاب أو لدفع شيء أشد وأقوى، فمن تستقر هذه المعرفة فيه؛ تعالى يتولى هداية قلبه أي بجعله مليء بالنور فلا يضطرب أو يقلق أو يخاف، فالقلب الضال والتائه هو قلب مظلم ويصاب بذلك، أما قلب المؤمن هو قلب أمن من كل ذلك، بالنتيجة من يؤمن أن الله تعالى بكل شيء عليم سيكون موقن بأن لا شيء يصيبه إلا بإذنه سبحانه.
أما العمل الذي يتبع هذا المعتقد فهو طاعة الله تعالى ورسوله، فالقتال في سبيل الله كما عبرت الآية {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}(٢)، فالذي يحمل في قلبه هذا المعتقد يطيع أمر الله تعالى حتى فيما يكره، فالجهاد والقتال هو بشكل من الأشكال هو مما يَعدُهُ الانسان مصيبة ففيه يحصل الفقد والألم والتعرض للاذى، فالنفس تراه شراً لها، لكن الذي يبصر بإيمانه ما وراء ذلك سيراه الخير كله.
المصداق الثاني في قوله تعالى: {اللَّـهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(١٣)}، هنا المُعتَقد هو توحيد الله تعالى أما العمل فهو التوكل عليه وحده سبحانه.
المصداق الثالث في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(١٤)}، هنا المُعتَقَد هو أن في رحلة الجهاد في سبيل الله تعالى يمكن أن يكون الزوجة والأولاد [عدو] بمعنى عائق عن طاعة الله ورسوله فيكون بسببهم من القاعدين لا الملتحقين بركب المجاهدين.
لذا العمل هنا كي ينجو الإنسان من هذا العدو الخفي والقريب منه هو [الحذر] من التعلق والحب الشديد الذي يجعل البقاء معهم أحب إليه من فراقهم، وهذا لا يعني أن يكون الحذر فيه نوع من الغلظة في التعامل معهم، فقد يكون من الطبيعي أن يتعامل الإنسان مع عدوه بقسوة وشدة وجفاء، لذا هنا الآية- كما يبدو- تنبه أن عنوان العداوة التي وصف بها الزوجة والأولاد هو لغرض الوقاية والحذر لوجود بوادر العداوة المحتملة لا القطعية الدائمة.
المصداق الرابع في قوله تعالى: {إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّـهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(١٥) فَاتَّقُوا اللَّـهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(١٦)إِنْ تُقْرِضُوا اللَّـهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّـهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ(١٧)}.
المُعتَقَد هنا أن المال والأولاد هم [فتنة]، وفي آية أخرى تأكيد لهذه الحقيقة، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّـهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}(٣)، أما لماذا هذا الثنائي عادة ما يجمع معاً؟ فيمكن أن نعرف علة ذلك من خلال قوله تعالى: {الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا}(٤)فالفتنة هي شيء جذاب فاتن للقلب؛ والمال والأولاد هما زينة هذه الحياة التي تأخذ بمجامع القلب.
لذا يحتاج الإنسان أن يجاهد نفسه الميالة لهما ليبصر حقيقتها من خلال تقوى الله تعالى والسماع لآيات الذكر الحكيم التي تُذكره بهذه الحقيقة حتى لا يغفل فيفتتن، ومن ثم بعد ذلك يمكن أن ينقاد قلبه لربه ويطيعه ويطيع رسوله فيكون من أهل الإنفاق، والإنفاق من الأموال واضح أما الانفاق من الأولاد فلعله هنا يراد به الانفاق المعنوي أي يخرج من قلبه حبهم لأجل أن يبقى قلبه خالصاً في الحب لربه.
كما أشارت الآية بعد ذلك بأن هذا الإنفاق إنما هو إقراض لله تعالى إذ أن التعبير مجازي وكأنه أتى لتطمين هذا المنفق بأن هناك مضاعفة لما أنفق وليس فقط يُرد له ما أنفق، مع المغفرة لأن النفس التي يحاول صاحبها أن يزكيها بالإنفاق وينجح يغفر له بعدها فترات الإخفاق في ذلك.
ولعل لذلك ختمت الآية بإسمي [الشكور الحليم] فالله تعالى حليم على ما يصدر من شح الأنفس لأنه خالقها والأعلم بضعفها وبالصعوبة التي تواجه هذا المخلوق البشري في أن يعطي مما تفضل الله تعالى به عليها، وشاكر لأنها استطاعت أن تبلغ التقوى وتنفق وتنجو من هذا الشح المهلك، فكما جاء بالحديث القدسي: [يا بن آدم، لم أخلقك لأربح عليك، إنما خلقتك لتربح علىَّ].
اضافةتعليق
التعليقات