مع حلول شهر صفر من كل عام، تتجه أنظار العالم إلى مدينة كربلاء المقدسة، حيث يبدأ العد التنازلي للزيارة الأربعينية. هذه الزيارة التي تحمل في طياتها أسمى معاني الحب والتضحية، تشهد تدفق الملايين من الزوار من مختلف المحافظات العراقية ومن خارج العراق، قلوبهم متلهفة للقاء سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين وأخيه أبا الفضل العباس (عليهما السلام).
تبدأ الحشود الحسينية بالتحرك من مختلف أرجاء العراق، من شماله إلى جنوبه، من شرقه إلى غربه. كل خطوة يخطوها الزوار نحو كربلاء هي خطوة تتجلى فيها معاني الولاء والإخلاص لقضية الإمام الحسين (عليه السلام). يغادرون منازلهم متوكلين على الله وعلى كرم أصحاب المواكب الحسينية الذين ينتظرونهم على طول الطرق المؤدية إلى كربلاء.
واحدة من أهم مظاهر الاستعداد للزيارة الأربعينية هي المواكب الحسينية المنتشرة على طول الطرق المؤدية إلى كربلاء. تتحول الطرقات التي يسلكها الزوار إلى مسارات مليئة بالحياة والكرم، حيث يتسابق أصحاب المواكب الحسينية لتقديم كل ما يحتاجه الزائر من ماء وغذاء وخدمات أخرى. تعمل هذه المواكب كخلية نحل بجهود جماعية منظمة، بهدف توفير الراحة للزوار.
يُدير هذه المواكب متطوعون من مختلف المناطق، مما يجسد روح الكرم والتضحية التي تعلمها الموالين من سيرة الإمام الحسين (عليه السلام). تبدأ المواكب بالتحضير منذ بداية محرم، حيث يتم إعداد الخيام، وتخزين المواد الغذائية، وتجهيز أماكن للراحة والصلاة، وتوفير خدمات طبية للزوار.
المواكب الحسينية ليست مجرد أماكن لتقديم الطعام والشراب، بل هي مراكز خدمات متكاملة تعمل على مدار الساعة لخدمة الزوار. تتنوع الخدمات التي تقدمها المواكب بين توزيع المياه الباردة، تقديم وجبات الطعام، توفير أماكن للنوم والراحة، فضلاً عن توفير خدمات صحية وإسعافات أولية للمرضى والمصابين. وتعتبر هذه المواكب بمثابة شرايين حياة تسري في جسد الطريق، لتبقي الزوار في حالة من الراحة والاستقرار، رغم مشاق الرحلة.
ومع اقتراب الزائرين من مدينة كربلاء، تزداد التحضيرات وتتسارع الخطوات لتقديم أفضل استقبال ممكن. تكون المواكب الحسينية في كربلاء في حالة استعداد قصوى، حيث يتم تجهيز أماكن الإقامة والطعام، ويُنسق الجهود مع الجهات الحكومية لتوفير الأمن والسلامة للزوار. ورغم الظروف الاقتصادية الصعبة وحرارة الجو، فإن الروح العالية لدى أبناء كربلاء وزوارها تجعل من هذه الزيارة مناسبة استثنائية تتجلى فيها أسمى معاني التضحية والكرم.
في كربلاء، لا تقتصر الاستعدادات لاستقبال زوار الإمام الحسين (عليه السلام) على المواكب الحسينية فقط؛ بل إن العوائل الكربلائية تلعب دورًا محوريًا في هذا المشهد الروحي. فمنذ بدء موسم الزيارة الأربعينية، تبدأ البيوت الكربلائية في التسابق لاستقبال الزوار، معبرة بذلك عن حبها وولائها للإمام الحسين (عليه السلام) من خلال كرم الضيافة الذي تقدمه لهؤلاء الزوار الكرام.
العوائل الكربلائية تجعل من استقبال الزوار تقليدًا راسخًا، حيث يتنافس الجميع على تقديم أفضل ما لديهم، ليعكسوا بذلك مدى ارتباطهم بالإمام الحسين (عليه السلام) ومدى فخرهم بخدمة زائريه. يبدأ الاستعداد لهذا الحدث الاستثنائي بتجهيز البيوت لاستقبال الضيوف، حيث يتم تخصيص أماكن مريحة للمبيت، مجهزة بأحدث وسائل الراحة مثل الفراش النظيف والحمامات المجهزة بأفضل التجهيزات.
ولم يتوقف الكرم عند توفير مكان للإقامة فقط، بل يمتد ليشمل تقديم الطعام بما تشتهي الأنفس، من مأكولات متنوعة تم إعدادها بعناية وحب. حتى إن بعض العوائل تقوم بتوفير غسالات للزوار، ليتمكنوا من غسل ملابسهم والاستمرار في رحلتهم بارتياح.
والأمر لا يقتصر على الزوار من داخل العراق فقط، بل إن العوائل الكربلائية تستقبل زوارًا من مختلف أرجاء العالم، ليصبح بيتهم ملاذًا للراحة والطمأنينة لكل من يسعى نيل زيارة الأربعين. هذا الكرم وهذه الضيافة تعكسان مدى الارتباط المجتمعي العميق بين أهل كربلاء وزوار الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث يعتبر كل بيت جزءًا من هذه التجربة الروحية العظيمة.
الزيارة الأربعينية ليست مجرد حدث ديني عابر، بل هي ملحمة حب وولاء تتجدد كل عام. الملايين من الزوار يتوجهون بقلوبهم قبل أقدامهم نحو كربلاء، ليجددوا عهدهم مع الإمام الحسين (عليه السلام). هي ليست مجرد زيارة لضريح، بل هي رحلة روحية ونفسية يجدد فيها الزوار ولاءهم للإمام الحسين (عليه السلام) وقضيته العادلة. ومن خلال هذه المسيرة، يبعثون برسالة إلى العالم أجمع بأن مبادئ الحق والعدالة التي دافع عنها الإمام الحسين (عليه السلام) هي مبادئ خالدة تستحق أن تتوارثها الأجيال.
اضافةتعليق
التعليقات