يميل الأفراد في الوقت الحالي ومنذ أن بدأت سطوة الفكر الغربي والتطور التكنلوجي باجتياح المجتمعات العربية والإسلامية إلى اتباع سُبل التطوير الذاتي المنعزل عن الجماعة، إذ تنأى المجتمعات الشرقية اليوم عن مفهوم الجهد الفرديّ الذي يراد به إصلاح حال الجماعات؛ حيث صار الفرد فينا يرى أن صلاح حاله وتطوير شخصيته وعلمه بمنأى عن الجماعات التي ينتمي إليها، إذ تغلبُ الفردانية على حياتنا، ويحتفظ كل شخص بعلمه وتطوره لنفسه فقط ولا يهدف إلى اشاعة العلم أو إعمام الخير أو تغيير سلوك أو أفكار مجتمعه بل واحتكار معرفته لنفسه دون إفادة الآخرين بها. لقد جاء في قوله تعالى: (هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها).(١)
إن النظرة الفردية للمصالح الخاصة تسببت في حجب الرؤية الموضوعية الشاملة لحال المجتمع والأسرة والدولة ككل، فقد تمكنت الأفكار الغربية والعصف التكنلوجي الذي هب على المجتمعات العربية التي كانت تعتمد بالدرجة الأولى على قوتها كأمة واحدة وكان يتأثر فيها كل شخص بكل مصاب يحل بالمجموعة بل ويسعى للبحث عن علاجات وحلول تنقذ الجمع لا الفرد، من أن تشتت هذا التماسك وتّذيب الغراء الذي يماسك الأسرة والمكونات المجتمعية الأخرى ليحوّلها إلى جماعات فردية ينطوي فيها كل شخص على ذاته ولا يرى نفسه ذو تأثير على أي مجتمع ينتمي إليه.
لا شك أنه يمكننا القول وبيقينٍ تام إن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يعد رائد التنمية البشرية الإسلامية وواضع أسسها، وإن المفكرين و الفقهاء الذين أسهموا في بناء الفكر المجتمعي الإسلامي لا بد من أن يكونوا قد تأثروا بشكل أو بآخر بفكره (عليه السلام). يعد الإمام علي (عليه السلام) الشخصية الأمثل بعد النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو خير إنسان يمكن أن يقتفي الناس أثره في كل تفصيلات حياتهم، وقد وصف نفسه خير وصف بقوله (عليه السلام): (إِنَّمَا مَثَلِي بَيْنَكُمْ كَمَثَلِ السِّرَاجِ فِي الظُّلْمَةِ يَسْتَضِيءُ بِهِ مَنْ وَلَجَهَا فَاسْمَعُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَعُوا وَأَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِكُمْ تَفْهَمُوا). (٢)
وان مراد الإمام (عليه السلام) من قوله المبارك بأن الظلمة هي الفساد والضلال، وبالسراج هو الهدى والصلاح، والإمام علم الهدى والحق، ومنار الخير والعدل، من استرشد به فهو المهتدي، ومن ضل عن سبيله فهو من الخاسرين.
إن الهدف الأسمى الذي سعى إليه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إنّما هو تحقيق العدالة الاجتماعية وصيانة حقوق الراعي والرعية، وتقوية العلاقات بين السلطة والشعب، حيث يكون الحق هو الذي يسود الأمة، وحتى لا تتبجح السلطة بالظلم وتعطيل الحقوق. كما أراد (عليه السلام) بناء الفرد المسلم بناءً صحيحاً، بناء المؤمن القوي مثلما أراد الله ورسوله.
تقع الانطوائية وتقديس الأنا على طرفيّ نقيض من التشاركية والتعاون الاجتماعي وهذا الأمر أرسى مبادئه وأصوله أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قبالة ما روّج له الكثير من المفكرين الوجوديين أمثال (فيودور دوستويفسكي، نيتشة، جان بول سارتر، بولان، وغيرهم كثير) إذ كثّفوا جهودهم في التسويق لما تترع به نفوسهم من عبادة الأنا والذات وتعظيم العزلة والانطواء والقطيعة مع المجتمع وأوهموا السذّج من العوام بأن الفرد هو تلك الحقيقة المتعالية التي تُشرّع القيم، وتخلق المعايير، إذ يقول سارتر "إن الجحيم هو الغير"، أما (نيتشة) فقد وصف قائلاً: "الرجل القوي المبدع هو ذاك الذي ينطوي على نفسه، ويفزع إلى الوحدة كالنجم الغارق في السكون".
إنها نظرة ضيقة ناجمة عن فهم مغلوط، وإن دعوتهم للفردية ناتجة عن اضطراب فكري ومرورهم بتجارب وانكسارات وخيبات جعلتهم يطلقون صفة التعميم بالدعوة إلى الفردنة وهم بلا شك لا يمثلون التوجه العام، فالمعطيات العقلية والتجارب الإنسانية تشير إلى عكس ذلك تماماً، فالإنسان لا يمكن له العيش وحده بل إن من مصادر المعرفة هو تراكم الخبرة وهذا التراكم هو نتاج التشارك الاجتماعي، وفي هذا يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) الذي يُعد بحق رائد علم الاجتماع عندما قال: "واعلم أن الرعية طبقات لا يصلحُ بعضها إلاّ ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض:
فمنها جنود الله، ومنها كتّابُ العامة والخاصة، ومنها قضاة العدلِ، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلِمةِ الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكلٌ قد سمى الله له سهمه، ووضع على حده فريضة في كتابه أو سنّة نبيه (صلى الله عليه وآله) ".(٣) ومعنى ذلك لا مناص من التشارك والاحتياج الواحد للآخر، بل أن القرآن الكريم أكد على التعارف لا التعازل كما صرحت الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا).
(٤) وهذا التعارف لا ينتج إلا من خلال التواصل والاتصال لا التقاطع والانعزال، وهناك كلمة رائعة للعالم (جيته) يقول فيها : (إنه ليس ثمة عقاب أقسى على المرء من أن يعيش الجنة بمفرده).
من جانب آخر يرى الدكتور (عبد الوهاب المسيري) - وهنا اقتبس - : "أنه كلما ازداد الشعور بالقوة عند الكائن الحي، نراه يميل إلى الفردية والاستقلال، والتكنولوجيا، رغم ميزاتها الضخمة، إلا أنها منحت الإنسان شعوراً طاغياً بالقوة والقدرة والإنجاز، فعمقت بذلك الفردانية، فداخل الأسرة أصبح الأفراد يعيشون منعزلين عن بعضهم وهم تحت سقف واحد بفعل الاعتماد على تكنولوجيا الاتصال، فبات الأفراد لا يتجمعون حول التلفاز الذي يتيح قدراً من التواصل، ولكن أصبح كل شخص منهم يميل للعزلة في غرفته، وأصبح (الموبايل) هو الأنيس والجليس الوحيد، بل صار الاكتفاء به كبديل عن التواصل مع الآخرين، وهو ما يعني أن العلاقات الإنسانية سائرة إلى التحلل، خاصة مع انهيار قيم الأسرة وأهميتها بالنسبة لأفرادها".
ما بين (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ ) وبين (حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) جسرٌ متسع وواضح المعالم، لا تكتمل آلية بلوغ للطرف الآخر فيه إلا بتوفّر نقطتيّ بدء ووصول. لا يبدأ الانطلاق من العزم والنيّة في التغيير فحسب بل جاء الفعل (يغيِّروا) ليُظهر أن التغيير قد شرع بالحصول فعلاً وبذلك يتحقق التغيير الذي سيقدمه الله. وهذا الأمر ينطبق على كل البشر مهما ارتفعت او انخفضت مكانتهم، فلم يكن هنالك فرقٌ بين مريم ابنة عمران أو موسى النبيّ وكلُ الأنبياء الآخرين، حيث تطلّب الأمر منهم خطوة قبل أن يتحقق مرادهم، فها هي مريم تهز جذع النخلة فتتلقى الرُطب، وها هو موسى يضرب بعصاه الحجر لتنبجس له عيون الماء، فكُل نيلٍ وتحقق بُني عليه فعلٌ مسبق وجهدٌ بدأ من الفرد وعمّ خيره المجتمع.
إنها صورة كاملة مكوّنة من مجتمع متكامل الأركان، لتتطبق قاعدة (مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى). لقد كوّن الأفراد عوالماً خاصة منغلقة تحافظ على أفكارهم وأحلامهم وتهيئ لهم دائرة آمنة من الخصوصية حتى لا تتسرب جهودهم الذاتية للخارج ويعيشون في غفلة عن ان التحسّن الذاتي الذي يصلون إليه ما هو في الواقع إلا جزء من تغيير جمعي يريده الله أن يبدأ حتى يُتّمه ويحصل الارتقاء الفكري للجماعة والفرد على حدٍ سواء.
اضافةتعليق
التعليقات